تحدثنا في المقال السابق عن الارتباط الوثيق بين اللغة والثقافة، أو بين لغة الإنسان وكينونته الفردية والاجتماعية، وأكدنا على عظمة تأثير اللغة على هوية المجتمع بكامله، وأن اللغة هي بكل المعاني هوية المجتمع وثقافته، وأن الأمة التي تُضحي بلغتها يتعذَّر عليها أن تحقق السبق والريادة على الأمم الأخرى، ومصيرها في النهاية الذوبان، وأن المجتمع الذي يصدر حكماً على لغته بأنها لم تعد لغة العلم والتقنية من خلال تجاهلها واعتماد لغة غيرها في التعاملات العلمية والتقنية فهو يُصدر حكماً على نفسه بالتبعية والتخلف.. إن التجارب العملية المعاصرة تؤكد على أن الأمم التي أفاقت من الغيبوبة ونهضت بقوة كانت تعتمد على هويتها ولغتها، فبعد أن عانت اليابان تدميراً كاملاً، عادت في فترة قياسية لتقف بكل قوة وشموخ، وتفرض على العالم احترام الفرد الياباني والمجتمع الياباني والثقافة اليابانية.. لقد استطاعت اليابان أن تجعل من لغتها الميتة والهجين من عدة لغات والتي تُسمى لغة الأربعات لأن عدد حروفها (4444) لغة حية يحتاج المجتمع الغربي أن يترجم العلوم اليابانية إلى اللغة الإنجليزية في أكثر دول العالم تقدماً وتقنية، ولقد أدرك اليابانيون أن عزتهم تكمن في بناء الثقة الوطنية والانتماء القومي من خلال استقلالية الشخصية اليابانية وعدم تبعيتها، والعناية التامة باللغة اليابانية.. لذا فقد كان تدريس أي لغة في التعليم العام قبل عام 2000م خيانة وطنية يُعاقب القانون عليها، وعندما سمح اليابانيون بتدريس لغة أجنبية في مدارسهم وضعوا شروطاً كثيرة لتعزيز اللغة اليابانية، وجعلوا تدريس اللغة الأجنبية اختيارياً.. ومن الممكن أن ينجح الطالب من المرحلة الثانوية، وأن يصبح طبيباً متخصصاً أو مهندساً تقنياً وهو لا يتكلم الإنجليزية.
وهذه الدولة المسماة إسرائيل استطاع اليهود أن يستخرجوا اللغة العبرية من القبر، وأن يعيدوا لها الحياة إلى أن أصبحت لغة العلم، وأصبح ما يُكتب باللغة العبرية يُترجم إلى الإنجليزية، وفرضوا هذه اللغة الكسيحة على المنظمات العالمية والدولية، بل تمكنوا من جعلها لغة تقنية لا تحتاج مطلقاً إلى استخدام اللغة الإنجليزية عندما تتعامل مع الإنترنت أو العلوم الطبيعية والتقنية الحديثة.. علماً بأن أكثر من ثلاثة أرباع سكان ما يُسمى بدولة إسرائيل ليست لغتهم الأصلية هي العبرية، كما أن ما تنفقه هذه الدولة الصهيونية على البحوث العلمية باللغة العبرية يُمثّل 20% من ميزانية الدولة في حين لا تحظى اللغة العربية بأي دعم مؤثر - مباشر أو غير مباشر - لتعزيز مكانتها العلمية والحضارية من ميزانية البحث التربوي في الدول العربية.. هذه الميزانية التي لا تتجاوز 02% من الناتج القومي.
والصين مثال صارخ يُجسِّد قدرة الدول على العلو والتحضُّر والتفوق تقنياً واقتصادياً وعسكرياً دون الحاجة إلى احتقار اللغة الأصل والاعتماد على لغة أخرى، فقد حرَّم الصينيون تعليم لغة أخرى مع لغتهم الأم، وحددوا عقوبة قانونية لمن يؤثر سلباً على تعليم اللغة الصينية في المدارس والجامعات، وبعد أن شمخت الصين عالياً، وأصبحت مارداً اقتصادياً وعسكرياً مهيباً سمحت للشعب الصيني المعتد بهويته الشامخ بمنجزاته أن يتعلم اللغة الإنجليزية في التعليم العام، ونموذج آخر قريب نراه كل يوم يعلن عن تقنية حديثة واكتشاف جديد بلغته ولسانه هو جمهورية إيران الفارسية الإسلامية.. إيران حرصت على نشر اللغة الفارسية في كل البلاد التي خلفتها الجمهورية السوفيتية، وبذلت كل الجهود لكي تؤصِّل اللسان الفارسي في الدول الإسلامية السوفيتية، فالانتماء للغة الفارسية يسبق لدى ملالي إيران الانتماء للغة القرآن وآل البيت، إيران المصنَّفة من العالم الثالث أو الرابع نراها اليوم، وهي تحاول نشر الإمبراطورية الفارسية وتحويل اللغة الفارسية إلى لغة عالمية للعلوم والتقنية والسياسة.
والأمثلة كثيرة لتلك الدول التي تخلت عن لغتها قناعة منها بأن ذلك سوف يُسهم في تسريع التقنية لديها، لكنها فيما بعد اكتشفت أن التخلي عن اللغة الأصل والاعتماد على لغة أخرى هو نوع من تذويب الهوية، وتأصيل التبعية، وفقدان الذات، وضياع الهيبة والاحترام من الشعوب والدول الأخرى، والمتأمل لواقع الدول العربية يُصاب بالحيرة، فاللغة العربية لغة عظيمة علمية متقدمة تُعد من أكثر لغات العالم مفردات واشتقاقات، وهي اللغة الوحيدة الهندسية التي تطابقت معها البرمجيات الحاسوبية بدقة متناهية حيَّرت العلماء وجعلتهم يؤمنون بأن اللغة العربية لغة متفرِّدة راقية.. سليلة حضارة عظيمة وقادرة على العودة والنهوض بنفس القوة السابقة في هذا العصر الحديث.. هذه اللغة تعيش تهميشاً وتجاهلاً من أهلها في مجال العلوم الطبيعية والتقنية وفي الاستخدامات الدولية والقانونية والاقتصادية وغيرها.
ونتساءل ما الذي يجعل إسرائيل وإيران واليابان والصين وألمانيا وفرنسا وكل دول العالم المتقدم تعتز بلغتها وتنهض بلغتها في حين نبقى نحن العرب نستعير لسان غيرنا ونظل عالة على ثقافتهم ونعتقد خطأ أن التقدم والحضارة لن يكون إلاّ من خلال اللغة الأجنبية، نحن لا نؤمن بنظرية المؤامرة غير أن ما نراه إن لم يسر في نفس الفلك فهو مؤامرة من أنفسنا على لغتنا، فالتكاسل الشديد في تعزيز اللغة العربية في مجال العلوم الطبيعية والتقنية، والتسابق المريب في تغريب كل العلوم وتعظيم تعليم اللغة الأجنبية على حساب اللغة العربية والثقافة الإسلامية أمرٌ يُنبئ عن مستقبل مجهول الهوية.
نعم نحن ندعو إلى طلب العلم ولو في الصين، وتعلُّم لغة القوم للأمن من مكرهم، وبذل كل الجهود لاكتساب العلوم من أي بقعة وبأي لسان، غير أننا نرى أن ذلك ينبغي أن يتم وفق خطة تدريجية واضحة المعالم نتمكن من خلالها من الاستغناء عن اللغات الأخرى إلاّ في الحاجات التي لا بد منها، وليس هذا بمستحيل، فالأمثلة من حولنا تثبت لنا أن ذلك ممكن، بل هو فرض وطني ينبغي أن نقوم به جميعاً دون استثناء، وسوف نشير في مقالنا الثالث إلى بعض الآليات التي من الممكن أن تكون نواة للحرية اللغوية الثقافية.
Amusharraf1@Riyadhschools.edu.sa