إن النجاح في أمر ما هو حصوله على الوجه المطلوب، ويتدرج مستوى هذا النجاح صعودا تبعا لزيادة العطا والإجادة في الأداء والمواظبة على ذلك، وصولا إلى النجاح المنشود والتفوق فيه. والمثابرة والنجاح توأمان، إذ إن المثابرة تتحكم في الجانب النوعي والكيفية المرغوبة في حين أن الوقت والثبات كفيلان بتذليل المصاعب والظفر ببلوغ الغاية..
|
.. والنجاحات المتواضعة تعتبر سلما لما هو أكبر منها، باعتبار الثبات على الغاية من أهم أسرار النجاح.
|
والمقصود بالنجاح هو النجاح الذي ينبثق من معطيات صحيحة، ويقوم على مرتكزات مبدئية وقيم أخلاقية على النحو الذي يقدم براهين مجسدة، وشواهد مشاهدة، يعترف من خلالها الأخيار بكفاءة وأهلية إنسان ما، بأنه على خلق وناجح في مهنته أو مجال عمله ومحيط نشاطه، بما يتوفر له من أهم شروط النجاح المتمثلة في الموهبة والمثابرة والتصميم على الهدف والاستفادة من التجارب واغتنام الفرص والثقة بالقدرة على النجاح مهما بلغت التكاليف.
|
والنجاح دائما لا يرتجل، بل لابد له من تحضير وإعداد، حيث إنه في غياب التحضير المسبق وترك الأمور للمصادفات يصعب تحقيق النجاح في هيئته الحقيقية، رغم أن ثمة مجالات محدودة وحالات نادرة قد يلعب فيها الحظ دورا بارزا عن طريق استغلال فرص سانحة، وتوسل وسائل ناجحة، يترتب عليها شكل من أشكال النجاح.
|
وعندما يؤدي الارتجال أو تدفع ضربة الحظ إلى نجاح من نوع ما، فإنه يكون عرضة لوجود الأخطاء التي تقلل من فاعليته، وتؤثر سلبيا على نتائجه البعيدة، كما تجعله مهددا بالتحول التدريجي إلى الفشل بسبب تراكم الأخطاء وتفاقم تأثيرها وخروجها عن دائرة السيطرة.
|
وعائدات النجاح التي يحصل عليها الإنسان الناجح تنبع من النجاح نفسه، وتتمحور حول الغاية التي ينشدها، مستمدة قيمتها من هذه الغاية التي تلتقي عندها سعادة تحقيق المراد مع متعة النجاح بفضل بلوغ الغرض من جهة، والظفر بالإنجاز من جهة أخرى.
|
والنجاح الحقيقي له فوائد فردية وعائدات جماعية ينعكس مردودها على المصلحة العامة من جانب وعلى الإنسان الناجح من جانب آخر، فبلوغ الغاية والظفر بالمطلوب والوصول إلى درجة النجاح، كل ذلك يعود على الأفراد والمؤسسات بالكثير من العائدات التي يعمل من أجلها العاملون، ويتطلع إلى تحقيقها الناجحون، ويطمح في الوصول إليها الطامحون في كل مهنة وموقع عمل، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي.
|
وكما أن للنجاح عائدات فإن له تكاليف يدفعها الناجح من وقته وجهده وصحته بما في ذلك أنه يكون بالنظر مستشرفا وبالرمي مستهدفا من قبل أعداء النجاح الذين يتربصون به الدوائر وينصبون له المكائد، وواقع حاله مثل الشجرة العالية المثمرة التي يحاول بعض من لم يطل ثمرتها بيده أن يرميها بحجر، كما أن ارتفاعها يجعلها عرضة لعواصف الرياح وقد قال الشاعر:
|
من نافس الناس لم يسلم من الناس |
حتى يعض بأنياب وأضراس |
|
إن الرياح إذا اشتدت عواصفها |
فليس ترمي سوى العالي من الشجر |
ويعتبر الحسد بمثابة المعول الذي يهدم النجاح، ويقوض بنيانه، وهو أكثر ما يكون بين أهل الصنعة الواحدة والشرف المتماثل، ولا يستوطن إلا في النفوس المريضة والطبائع الخبيثة، والإنسان الذي يحسد غيره من زملائه مهنته لا يفعل ذلك إلا إذا كان مقصرا في عمله، متخلفا عن ركب أقرانه، إذ إن السوي في طبعه المجيد لصنعته لن ينشغل بأمر غيره، بل إن الإنسان إذ جل قدره وبرز في عمله استعان بالآخرين على طلب المزيد، وأخذ الحكمة من حيث وجدها، وعرف الفضل لأهله، مدركا الخط الفاصل بين الغبطة والمنافسة الشريفة وبين الحسد.
|
والواقع أن أهل الحسد هم أشد أعداء النجاح، وتعود إليهم معظم الممارسات التي تلحق الأذى بالناجحين، وتجلب لهم المنغصات والمحبطات، ويشكل زملاء المهنة مرتعا خصبا ومجالا رحبا للتحاسد ونصب المصائد من خلال ذكر المثالب وتغطية المناقب ولله در القائل:
|
عين الحسود عليك الدهر حارسة |
تبدي المساوي والإحسان تخفيه |
يلقاك بالبشر يبديه مكاشرة |
والقلب مضطغن فيه الذي فيه |
إن الحسود بلا جرم عداوته |
فليس يقبل عذرا في تجنيه |
والتحاسد بين الأكفاء من أقوى حلقات الحسد استحكاما وأشدها أثرا على المحسود، وهذا النوع من الحسد الذي يحصل بين الأنداد أو عندما يمازجه خصومة، فإنه يتحول إلى شكل من أشكال العداوة التي لا تنفع معها الحيلة، ورغم قسوته ومرارة نتائجه إلا أنه قد يكون له من دواعي التنافس والغيرة ما يهون وقعه على أطرافه، والأمر المؤلم والأكثر مرارة أن يجد بعض الأقزام نفسه في مترك المنافسة، وهو ليس من أهلها، ولا يمتلك مقوماتها، ولا تنطبق عليه معاييرها، وإنما استظل بمظلة من فوقه واتخذ منها مكانا يخنس فيه بحيث يسرح ويمرح في مسرح خال من المنافسين، معتمدا على مؤهلات لا تلائم الأخيار، ومتسلحا بسلاح لا يناسب الأحرار، وشتان بين مطالب المنافسة النفيسة وتلك الخسيسة، وما أصدق قول الشاعر:
|
ومن العقول جداول وجلامد |
ومن النفوس حرائر وإماء |
ويزداد الحسد شراسة إذا ما كان بين الأكفاء أو شابه خصومة أو المحسود يحسد على مقومات تقوم عليها شخصيته، حيث إن الحسد إذا ما انصب على ذات المحسود ومواهبه وما حباه الله به من ملكات فطرية وصفات مكتسبة، فإن النجاح المترتب على ذلك يزيد من حسد الحاسد، ويؤجج طبعه الفاسد، ويحرك مستنقع عناده الراكد، وقد قال أحد الحكماء: ثلاثة أمور لا تجدي معها الحيلة: تحاسد الأكفاء وعداوة الأقرباء والخصومة التي يمازجها حسد، وكما قال الشاعر:
|
كل العداوات قد ترجى إماتتها |
إلا عداوة من عاداك من حسد |
ويعتبر المقصرون والمتخاذلون من أعداء النجاح حيث يجدون في سلوك الناجح ما يتعارض مع سلوكهم ويصطدم بممارساته من ومع مرور الأيام واعتياد هذا السلوك يصبح التقصير والتخاذل مغلفا بالكيد والمعاندة، الأمر الذي يدفع هؤلاء إلى النيل من الناجح والتقليل من قيمة نجاحه، علاوة على إخفاء محامده وتحويلها إلى مذام، والتكالب ضده كلما سنحت لهم الفرصة.
|
والفاشلون عادة ما يجدون في أنفسهم على الناجح ويظهر لهم في نجاحه ما يغيظهم، لأن ذلك يكشف فشلهم ويعريهم أمام الآخرين من جهة، ويكلفهم جهدا لا تستوعبه سلبيتهم ولا يتحمله كسلهم من جهة أخرى، وبالتالي يعوضون عن الفشل بالقدح في الناجح والحط من شأن النجاح.
|
ومما لا شك فيه أن أصحاب المصالح الخاصة وعبدة الذات هم من أخطر أعداء النجاح لأن أثرتهم وحبهم لذواتهم، وتقديم مصالحهم الشخصية على ما سواها تجعلهم يحاربون النجاح، ويتجنون على الناجحين، إيمانا منهم بأن مصالحهم الذاتية تنمو وتتكاثر في البيئة التي تتجاهل المصلحة العامة وتعمل ضدها، وما يعنيه ذلك من تضاد المصالح وتصادمها، بالشكل الذي يثير حفيظة الأنانيين النفعيين تجاه النجاح الحقيقي الذي هو الطريق إلى خدمة المصلحة العامة وتفضيلها على المصالح الفردية الضيقة.
|
ومن تجاوز الحدود والقيود في إيثار مصلحته، وذهبت به الأثرة إلى عبادة ذاته، وكانت غايته تبرر وسيلته، مرتكبا الباطل ومبتعدا عن الحق فإن الحسد والكيد والتقصير في أداء الواجبات تجاه جميع ما يخدم المصلحة العامة، تعتبر كلها من الوسائل الذميمة التي يتوسلها لبلوغ أهدافه الشخصية وتحقيق مطامعه الذاتية بما في ذلك معاداة النجاح، والتطاول على الناجحين ولسان مقاله وواقع حاله كما قال الشاعر:
|
إذا كان الطباع طباع سوء |
فليس بنافع أدب الأديب |
وكثيرا ما يعمد أصحاب العقول المتخشبة إلى محاربة النجاح من خلال محاربتهم للتجديد بحيث يلجؤون دائما إلى استخدام أفكار قتل الأفكار لوأد أي فكرة تدعو إلى التجديد، وهي لا تزال في مهدها، ويرجع ذلك إما لميولهم التقليدية وانسياقهم بحكم العادة وراء كل ما هو قديم أو خوفهم على مستقبلهم الوظيفي واعتقادهم أن استمرار هذا المستقبل مرتبط باستمرار واقع الحال أو لهم مصالح خاصة يخشون عليها، وعندهم قناعة بأن تغير الحال سوف يعرض هذه المصالح للزوال.
|
ومن هذه المصالح التي يحاول صاحب العقل المتحجر والأسلوب الجامد المحافظة عليها، تلك المنافع المادية والمزايا المعنوية التي سوف يفقدها بمجرد أن يعزل عن الوظيفة ويفقد السلطة بحيث يكون عدما في غيابها ولا مكان له بدونها.
|
والنجاح في الغالب لا يحارب بعينه بل تتم محاربته من خلال محاربة الناجحين، وزملاء المهنة وأصحاب الصنعة الواحدة أوضح شاهدا على ذلك لما يحدث بينهم من الحسد الذي يفضي بأحدهم إلى محاولة الإيقاع بزميله في المهنة أو الصنعة، فتتضرر المصلحة العامة بسبب التطاحن على المصالح الخاصة، وهناك من يحارب النجاح عن طريق محاربة التجديد نتيجة لجموده الذهني وتخشبه العقلي من جانب وحرصه على مصالحه الشخصية من جانب آخر.
|
والذي يأخذ بأسباب النجاح ويحاول التجديد، يقيض له من يتربص به ظلما وعدوانا، إما لحاجة في نفس يعقوب أو من أجل مصالح خاصة، والبيئة المحيطة لا تميل نحو غير المألوف لأنها اعتادت النمطية وسيطرت عليها العادة إلى الحد الذي أصبحت معه أسيرة للتقليد والرتابة، فلا مكان لاستيعاب الجديد والتمتع بالمفيد ولا تقدير للتفوق والتقدم نحو المزيد.
|
وجميع أعداء النجاح ينطلقون في عداوتهم من منطلقات تقوم على الأثرة والحسد، ويحركها سوء الطوية وخبث النية، علاوة على ما يغذيها من جمود في الفكر وتقصير في التنفيذ، مع النظر إلى الأمور من زوايا مصلحية وقياسها بمقاييس دونية، ولكل منهم وسيلته التي يستخدمها لمواجهة الناجح والتقليل من شأن نجاحه.
|
وعادة ما يلجأ أعداء النجاح إلى التعتيم على هذا النجاح والحط من قدر نتائجه، والإساءة إلى الناجح ووضع العراقيل في طريقه ومنهجهم في ذلك منهج أعداء المروءة الذين إذا رأوا خيرا ستروه وإذا رأوا شرا أظهروه، بل إن ما تنطوي عليه نفوسهم من سوء ويشوب طبائعهم من خبث يجعلهم أكثر حرصا على اقتناص المساوي وتضخيمها، وتجاهل المحاسن وتحجيمها مع الإمعان في التجني والافتراء كلما وجدوا إلى ذلك سبيلا.
|
وليتهم يكتفون بوضع العوائق في طريق الناجح وما يصحب ذلك من تنغيص، بل يصل بهم الأمر إلى محاولة تشويه إنجازاته والنيل من قيمة نجاحاته وإلحاق الأذى به ونصب المكائد له عن طريق تبادل الأدوار المسيئة واستغلال البيئة الموبوءة، متسلحين بسلاح الجبناء المتمثل في التدثر برداء الخزي والعار والرمي من وراء الستار.
|
والأجدر بكل مؤسسة عمل، والسلطة القائمة عليها ألا تغفل أمر هؤلاء النفعيين الانتهازيين، حيث إن من وسائلهم المتوسلة وأساليبهم المتبعة سرعة التأثير على صاحب القرار عن طريق التملق أمامه والتزلف له وتصيد رغباته وإظهار الولاء له بصيغة تستهويه وتكون محببة إلى نفسه، فإذا حصل لهم شيء من القبول انقضوا على ضحاياهم بصورة يمزجون فيها السم بالعسل وبعضهم يغلف الدسيسة والسعاية بغلاف خادع مستغلا طبيعة عمله ومجال وظيفته وأحيانا يضع ذلك في قالب نصيحة.
|
وبوصول أعداء النجاح إلى مآربهم وتحقيق أهدافهم، فإن الأمور تؤول إلى غير أهلها وترتفع أصوات الأسرار على حساب أصوات الأخيار لغياب المثال الصالح والمستشار الناصح وبالتالي يستفحل التسيب ويتفشى الفساد في بيئة العمل، ويصبح الصواب مهجورا والخطأ مأثورا. وهو أمر يتطلب من كل مسؤول أن لا يستمع للسعاية والغيبة، ولا يتيح الفرصة لتتبع عورات الناس والتدخل فيما لا يعني، بل يوصد الباب في وجه كل دعي زنيم، وما أحسن ما قاله الإسكندر عندما وشى واش بآخر عنده قال له: أتحب أن نقبل منك ما قلت فيه على أن نقبل منه ما قال فيك، فقال: لا، قال له الإسكندر: فكف عن الشر يكف الشر عنك.
|
|