أحسب أنني لا أقول إلاّ معاداً من القول عن (فن السيرة الذاتية) بكل أبعادها الإبداعية والتنظيرية، لقد شدّتني بملحها ومفاجآتها، حتى لم أزل أبحث عن سائر السير المؤلّفة أو المترجمة العربية أو العالمية، وأمتع نفسي بقراءتها، وأتمنى لو توفّر الجهد والوقت لكتابة سيرتي الذاتية التي استوعبها.....
.....نصف قرن من الزمن المتقلّب في مختلف الممارسات العلمية والثقافية والعملية بحلوها ومرِّها وعُجْرها وبُجْرها، وإن كانت مع هذا الطول والتنوُّع لا تنطوي على شيء ذي بال، ولكنه التشبُّث بالبقاء والسير على سنن: (كل فتاة بأبيها معجبة) وعلاقتي بفن السيرة ذو شقّين:
* علاقة تَعَرُّف يمتد إلى تاريخها وبنائها الفني واللغوي.
* علاقة مَعْرِفة تَلِجُ ذاتها بوصفها إبداعاً تتنازعه عدّة اتجاهات.
ولأنّ السير من السهل الممتنع والممتع معاً فقد وقع في حبائلها المتألقون والمنطفئون والصادقون والمزورون والمقتدرون والعاجزون، ولربما كانت أول سيرة ذاتية بهرتني وفرضت نفسها عليّ (الأيام) لطه حسين بأجزائها الثلاثة، وإن جاءت مبتورة، وكانت أمنيات كاتبها أن يأتي على ما جد من حيواته المثيرة، ولكنه اسْتُغْرِقَ بما دون ذلك فمات وفي نفسه شيء منها.
وميزة السيرة العفوية والبساطة وروعة الأداء وعذوبة الأسلوب والاهتمام بالصغائر ودقة الوصف والتشخيص، وتلك سمة المكفوفين فالصورة عندهم كما يجليها بعض الدارسين تتسم بالحسية والتشخيصية ظناً منهم أنّ المبصرين مثلهم في ضعف التخيُّل، ولقد حُظِيَتْ تلك السيرة بدراسات متعددة المناهج والاهتمامات كشفت عن سِرِّ شيوعها وميل القرّاء إليها، على أنّ (العقَّاد) بوصفه المجايل الأهم لصاحبها لم يفرغ لكتابة السيرة الذاتية، وإن أفْضَى بشيء من وقائع حياته في أكثر من كتاب ك(حياة قلم) و(في بيتي) و(أنا) ولكنه لم يرق إلى مستوى (الأيام) فنياً، وإن تجاوزها فكراً وموضوعاً ولأنّ السيرة الذاتية تمد بسبب إلى الإبداع الفني فإنّ تألقها مرتهن لاكتمال متطلّباتها الفنية، والذين مارسوا الكتابة المجرّدة لم يكن لسيرهم علوق في الأفئدة.
وقراءتي الحرة للإبداع السيري واكبتها قراءات أخرى متعددة الأغراض فلقد ناقشت رسالة علمية، تناولت السيرة الذاتية في الأدب السعودي، وأشرفت على أخرى تقصّت ظاهرة التعالق بين الرواية والسيرة الذاتية، وحُكِّمتُ في أعمال إبداعية من آفاق المعمورة، وهي سير شتى منْها العلمي والسياسي والفلسفي والاجتماعي، ومنها التسجيلي والتاريخي والإبداعي ومِنْها المغرق في الاعتراف حتى الفحش والمحتشم حتى الوقار، ومنها الممتلئ والمتشبع والفارغ، وهذا الإلف خلق عندي أجواءً حميمية وحَدَا بي إلى الجمع بين التنظير والإبداع، ومن خلال ذلك بدت لي الإخفاقات الذريعة والقول الممل في كثير من المحاولات الفجَّة والإغراق في الذاتية فضلاً عن الادعاء والتشبع الزائف، ودعك من الاعتراف المخل بالأخلاق، وإذ تكون السيرة من الأدب فإنّ من المسيء أن يكون سوء الأدب في الأدب، وإذا جمع بعض الكتّاب بين إخفاقين: إخفاق في الفن واللغة وإخفاق في الموضوع، يصبح العمل وصمة عار يود صاحبه لو يدسه في التراب وإن أمسكه فَعلَى مذلة وهوان.
والسيرة إذ تكون تاريخ حياة وتسجيل أحداث ووصف مواقف فإنّ الكاتب مؤتمن على ألاَّ يقول إلاّ الحق وهو شهيد، والحقُّ مرٌّ والصدق صعب، وقد يجهل الإنسان نفسه، وما أكثر الذين لا يعرفون أنفسهم، إذ لو عرفوها حقّ المعرفة لما كان لهم أن يكونوا دون غيرهم ولا أن يكونوا مجال مؤاخذة وذم، ولقد يقع الإنسان في الوهم، وتبرير الأخطاء فينال من الآخرين دون هوادة، وهذا بعض ما وقع فيه المفكر الوجودي الذي لا ينازع معرفة وأثراً وإرثاً فلسفياً (عبد الرحمن بدوي) لقد جاءت سيرته (حُطَيْئيَّة) بحيث وضع كل الأطراف الذين عمل معهم في قفص الاتهام، ولم يتورّع من النَّيل منهم، و(طه حسين) الذي اتهم بإقصاء خصومه والقضاء على مستقبلهم ظهر في سيرته حملاً لطيفاً لين الملمس جميل العبارة إنسانيّ المقاصد، وحتى الذين تعقّبوا حياته من حوارييه ومريديه لم يعرجوا على جناياته بحق من حوله من الأنداد، وكل مبادر لكتابة السيرة يحاول التنصل من المقترفات، فهو وحده المثالي الفذ والإنسان الكامل، وبخاصة في السيرة السياسية لزعماء العالم الذين جرّوا الويلات على الشعوب المضطهدة.
وأدب الاعتراف بوصفه واحداً من طرق الصدق يقعد به التفحش والمنكر من القول، فالذين اعتمدوه منطلقاً أوغلوا في الرذيلة، ولم يحاولوا الاستتار الذي دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأكد عليه وعدَّه من محققات المعافاة بقوله: (كل أمتي معافى إلاّ المجاهرون) وقوله: (إذا بليتم بهذه القاذورات فاستتروا).
وعلينا حين نواجه بهذا اللون من الإسفاف الموضوعي أن نحفظ لذويه حقهم المعرفي والفني، إذ لم ينكر الإسلام حق الشاعر الجاهلي، والقرآن الكريم الذي ذم طائفة من الشعراء احتفظ لهم بحقهم الشعري فقال: (والشعراء) ولم يقل: (والمتشاعرون).
والدارس والناقد وإن وجب عليهما إظهار المثالبْ الموضوعية فإنّ عليهما العدل وإعطاء كل ذي حق حقه، لقد أسَفَّ (نزار قباني) ولكنه ظل في ذروة الشعر الحديث، والمصداقية تحتم على الملتزم أخلاقياً أن ينصف الخصم ليكون لكلامه وقع في النفوس.
ولقد يكون من المفيد أن يفرغ الصفوة لكتابة سيرهم متى كانت ذات مساس بحيوات الأمة إذ هم في النهاية أوعية لتاريخها الشفهي، فالتاريخ أحداث يمارسها الأفراد والجماعات فإن تلقّفها المؤرّخون وقيدوا أوابدها أصبحت تاريخاً يكتبه شاهد به، وإن بقيت الأحداث في الصدور ظلّت خارج إطار التاريخ، والذين يديرون الشؤون العامة للأمة يحتفظون بالتاريخ الشفهي، فإن كتموه وتفرّقت بهم السبل ثم قضوا نحبهم مات معهم شطر من ذلك التاريخ، وإن أفضوا به إلى الطروس انعتق من الضياع، وذلك مكمن الأهمية في السيرة الذاتية، على أنّ قيمة السير الذاتية ليس وقفاً على تاريخ ما أهمله التاريخ، ولكنه في أشياء كثيرة، فالإنسان ذاته جزء من التاريخ، والذين فرغوا لكتابة سيرهم أو رحلاتهم أو رؤاهم الشخصية للأشياء، شدّوا الانتباه وأمتعوا العقول ولا سيما أنّ البعض من العلماء والأدباء والمفكرين والمبدعين قصروا سيرهم على تلك الحقول التي أفاضوا فيها. ولعلنا نذكر (السيرة الشعرية) و(حياة في الإدارة) للقصيبي، وهذا اللون من السير ذو بُعْد معرفي خاص لا يخرج منه إلى غيره، كما أنّ هناك سيراً سياسية كتبها قادة العالم بعد خروجهم من السلطة وإن كان طابعها التنصل والتَّبرير ولكنها جزء من التاريخ السياسي للعالم، وأخرى اجتماعية أو فلسفية أو تربوية وقد تكون السيرة جامعة لكل هذه الأطراف كالسيرة الحافلة التي كتبها (عبد الوهاب المسيري).
ولكل كاتب سيرة طريقته التي لا يمكن أن يستبدلها، لأنها تفرض نفسها عليه وتحكم رؤيته، وليس من مصلحة المشهد الأدبي التنميط والتناظر.
وعلى ضوء ذلك فإنّ هناك سيراً ممتعة وأخرى مفيدة وقد تجمع بين الحسنيَين، فالكاتب قد يكتفي بالتسجيل دون التحليل وهذا ما نراه ماثلاً في (وسم على أديم الزمن) لمعالي الدكتور عبد العزيز الخويطر، وقد يجمع بين المنهجين وهذا ما نراه في (حياة الإدارة) لمعالي الدكتور غازي القصيبي، وقد تعرض الأحداث للاعتبار وهذا ما نراه في (قطرات من سحائب الذكرى) لمعالي الأستاذ عبد الرحمن السدحان، وهي زخات من قواصف الماضي وعواصفه كما وصفها نفسه.
ومهما اختلفنا أو اتفقنا مع المغامرين في كتابة السير فإننا نتوق إلى مزيد من المبادرات، وبخاصة من أولئك الذين أنيطت بهم مهمات مصيرية أو الذين طال مكثهم في مرافق الدولة التشريعية أو التنفيذية وكم ناشدت في السرِّ والعلن بعض رجالات الدولة تقييد أوابدهم والإفضاء بها إلى الناس، وليس هناك ما يمنع من التدقيق والتمحيص واستبعاد ما يمس أمن الدولة أو يكشف بعض أسرارها، وليس في ذلك إخلال بالقيم فلكل دولة مصالحها وأسرارها وخططها التي لا يجوز الإفضاء بها.
ولقد أدركتْ (دارة الملك عبد العزيز) فداحة إهداء التاريخ ومن ثم عمدت إلى التسجيل الشفهي والتنقيب عن الوثائق لاستكمال تاريخ تأسيس البلاد على يد المؤسس الملك عبد العزيز - رحمه الله -، ولكن شتان بين المبادرة الذاتية وتجميع الأشتات من هنا وهناك.