ماذا لو جئت إلى جارك لتناول القهوة في مجلسه المفتوح دوما كما اعتدت على ذلك منذ ثلاثين عاما ووجدت الباب مغلقا لأول مرة منذ ثلاثة عقود متتالية، بالطبع ستطرق الباب بقلق وتسأل ما الخطب؟ وماذا ستفعل لو قال لك جارك: إن الخطب الأكبر والمصيبة العظمى أيها الجار العزيز أن ولدي قد قتل ولدك البارحة وسلم نفسه إلى الشرطة؟! وما هو موقفك حينما يفاجئك جارك بالقول بأن هذه إرادة الله وغواية الشيطان. ولكي نخضع لإرادة الله ونتجاوز غواية الشيطان ولكيلا نخسر (ولدينا) الأول بالقتل والثاني بالقصاص، هيا بنا لنستدرك الأمر (فالحي أبقى من الميت) ثم تركبان سيارة واحدة وتتجهان إلى مركز الشرطة ويتقدم والد القتيل ويسجل بكل شهامة ومروءة تنازله الشخصي عن حقه الخاص ويطلب الإفراج عن قاتل ابنه - ابن جاره - ويصر على أن يصطحبه معه بالسيارة ويتجهان إلى منزل جاره ويقول: افتح مجلسك (يا ابن هذيل) فقد حدث ما حدث ولا راد لمشيئة الله، وبالطبع ينهض ابن هذيل ويقبل رأس جاره الشهم (ابن طوعان) ويقول له بيض الله وجهك يا ابن طوعان فلقد ضربت أروع مثل في الشهامة والسماحة والصبر وحسن الجيرة واحتساب الأجر عند الله، ثم دارت فناجين القهوة وكأن شيئا لم يكن.
|
|
هذه القصة ليست من نسج الخيال بل هي قصة واقعية بطلاها الشيخ حمود بن طوعان الشمري من أحفاد شاعر شمر التاريخي الكبير رشيد بن طوعان لسان حال (السناعيس) الحربي الشهير الذي قال في إحدى قصائده الرائعة يصف إحدى مواقعهم في الجاهلية الثانية هكذا:
|
(يا مزنه غرانشت رفاريف |
هلت على ظفره مطرها انهشامي |
نربيدها روس المهار المزاعيف |
وعشبه قرون مسيحين الايدامي |
تصرخ بها حدب السيوف المراهيف |
وتفتح بها بقع النسور الآثامي) |
|
أما جاره والد الجاني فهو الشيخ فلاح بن هذيل من أحفاد الفارس الشمري المشهور (فايز بن هذيل) الذي قالت به (وحيشه) من أهل الغزالة تستغيث به وهو في الشمال:
|
( يا فايز بن هذيل يا غيبه الذيب |
والا كما حرٍ على مذلفٍ راح) |
فأجابها عن طريق المندوب: |
( يا راكب من عندنا فوق مرعوب |
اسرع من الشيهان مشبع عياله |
وش هقوتك مداد من نقره أيوب |
العصر ما يمسي حوالي الغزاله) |
وحينما قيل له: إن ذلك مستحيل ضرب بكفه غزال الشداد ومات قهرا لأنه لم يستطع إغاثتها - سريعا - لبعد المسافة بين نقره أيوب على الحدود التركية وبين الغزاله في أنحاء حايل.
|
|
لذا ليس مستغربا على هذين الرجلين تبادل الشهامة والنخوة كما فعل (شيخ العافين) - ابن طوعان - كما أسماه شمر في حفل كبير أقامه إكراما له الشيخ برغش بن طواله الذي دعا فيه خلقا كثيرا من جميع القبائل في أنحاء مملكتنا الغالية وذلك افتخارا وتشجيعا للآخرين ليحذوا حذوه في زمن المتاجرة بالدم وطلب العوض المعجز الذي وصل لدى بعض الجشعين إلى ما يتجاوز العشرات من الملايين وللأسف الشديد هذا الأمر الذي جعل ولاة الأمر يهيبون بالجميع أن التنازل لوجه الله لا يتم بفرض المبالغ الباهظة بل احتسابا للأجر وإصلاحا لذات البين وأن حدد مبلغ التراضي بما لا يتجاوز ال(نصف مليون) فقط كما أشار إلى ذلك صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز- أطال الله عمره- في رده على الشيخ عبدالله بن فيع والزميلين محمد آل الشيخ وعبدالله الفوزان فيما يخص هذا الموضوع بالذات.
|
|
* يبقى القول أخيرا: إن هذا الموقف النبيل ليس هو الأول لأبناء قبيلة شمر العريقة فقد سبقه هذا العام تحديدا أن أنقذ أحد أبناء هذه القبيلة العزيزة عائلة من الغرق أثناء هطول أمطار الشتاء لهذا العام، كما أنقذ أحد رجالاتها طفلة خطفها وافد آسيوي وأعاد الطفلة إلى أمها وألقى القبض على الخاطف ف(تحية للطنايا) وأبناء عروس الشمال عموما وكثر الله من أمثالهم آمين.
|
|