Al Jazirah NewsPaper Sunday  28/06/2009 G Issue 13422
الأحد 05 رجب 1430   العدد  13422
قصة قصيرة
صباح السبت
د. هشام السحَّار

 

استيقظ من نومه مفزوعاً، غمرت أشعة الشمس الصادرة من الشباك الكبير المواجه للفراش وجهه مصحوبة بذلك الصوت الحاد الرفيع لزوجته وهو يصرخ باسمه.. كم يكره هذا الاسم وخاصة في الصباح عندما توقظه من النوم ليذهب للعمل.. العمل؟ أي عمل؟!.. اليوم هو الجمعة.. لا يوجد عمل اليوم..!!!

من وسط أجفانه الملتصقة فوق العيون المتورمة همس بصوت غليظ من جراء ساعات النوم.. ولكن اليوم.. هو الجمعة..

نظرت الزوجة إليه بمزيج من الشفقة والاستنكار.. أي جمعة يا رجل.. اليوم هو السبت.. قم.. وإلا تأخرت عن عملك.. نظر إليها متشككاً.. لمح في هيئتها ما يؤكد كلامها.. الشعر المعقوص تحت المنديل حائل اللون.. وملابس نومه القديمة.. وأدوات التنظيف في يديها.. هو السبت إذن.. ولكن.. اليوم هو الجمعة.. يذكر أنه قد عاد بالأمس من سهرة الأصدقاء التي اعتادوا أن تكون ليلة الخميس من كل أسبوع.. اليوم الوحيد الذي يستطيع فيه أن يخرج من دائرة العمل الشاقة.. الاستيقاظ من النوم.. رحلة العذاب ذهاباً إلى العمل.. روتين الأحداث اليومية في المصلحة.. العودة معلقاً بيد واحدة في سيارة الأتوبيس العتيقة.. السير حتى منزله من الشارع الكبير حتى حارة (أبو النوم) حيث يعيش.. الغداء.. النوم لمدة ساعة واحدة.. النزول مرة أخرى ليلحق بعمله الآخر.. عله يجد فيه بضعة جنيهات.. تعين في ذلك الزمن الأغبر.. العودة متعلقاً بالأتوبيس مرة أخرى.. طعام العشاء.. ثم النوم.. ليعيد الكرة من جديد.

إلا ليلة الخميس.. فلا عمل إضافي لديه.. بل سهرة مع أصدقاء الطفولة.. في المقهى.. تبادل النكات الساخنة.. لعب الطاولة.. ثم العشاء سوياً.. عند (عدوى) بالميدان.. ثم العودة بعد انتصاف الليل.. لعله يصادق حظا حسنا.. عندما يعود.. ثم نهار الجمعة.. حيث الصلاة.. ثم الاسترخاء في المنزل.. وطعام الغداء الذي تتفنن زوجته في إعداده.. ثم قيلولة طويلة.. والسهرة بين الأبناء.. اعتاد هذا النظام طيلة سنوات زواجه.. وها هو الآن بعد عودته من سهرة الخميس.. يذهب للنوم محبطاً بعد أن صادقه رفض مقنع.. بحجج واهية من زوجته.. ثم يستيقظ لتخبره تلك المرأة.. بصوتها الحاد.. أن اليوم هو السبت..!! كيف حدث ذلك.. سألها بصوته الملتصق بحلقه.. وأين ذهب يوم الجمعة؟!.. نظرت إليه بتعاطف مستخف.. ذهب إلى حيث تذهب الأيام.. قم وإلا تأخرت عن عملك.. ثم تعود وتسمعني ذلك الموشح المكرر عن اضطهاد رئيسك لك عندما تعود مكتئباً.. من جراء الجزاءات التي يوقعها عليك..

قام من نومه مفزوعاً عند سماع تلك الجملة الأخيرة.. ارتدى ملابسه على عجل.. لم يحس برغبة في تناول الطعام.. اكتفى برشفة طويلة من كوب الشاي.

خرج مسرعا إلى الطريق.. وهو لا يزال في شك من أمره.. كان كل شيء يراه حوله.. يدل على أن اليوم هو السبت بالفعل.. حركة المارة في الطرقات.. زحام المواصلات.. ضجيج السيارات.. الزحام حول عربة الفول على الناصية.. أين هذا من هدوء صباح الجمعة..

لكنه لا يزال غير مصدق لما حدث.. يذكر سهرة الخميس بلا شك.. ويذكر كل ما فيها بالتفصيل.. ويذكر زوجته وهي توقظه الآن.. ولا شيء بينهما.. ثقب أسود في الذاكرة ابتلع كل شيء..

دفعه عدم التصديق لأن يسأل المارة عن اليوم.. أجابه أولهم بقليل من الدهشة.. السبت.. وعندما تكرر منه السؤال لعديد من المارة.. تغير الأسلوب من استنكار إلى استهزاء.. إلى اتهام بالجنون.. بل إن آخرهم دفع له بقطعة من النقود عندما اقترب منه.. وسارع بالفرار.. قبل حتى أن يسأله.

اقترب من بائع للجرائد.. عله يعرف تاريخ اليوم من صفحات الجرائد المعلقة لديه.. تظاهر بالقراءة السريعة.. لكنه ركز اهتمامه على مكان التاريخ من الصفحة الأولى.. آثار دهشته خلو صفحاتها من أي تاريخ.. نفس العناوين التي اعتادها.. نفس الصور.. نفس الوجوه.. لكن الصفحات تخلو من أي إشارة لأي يوم.. أو شهر.. أو سنة..

أحس بحرارة تسري في جسده.. اتسعت خطواته في طريقه للعمل.. لم يستقل الحافلة.. قرر أن يواصل السير لعله يفهم ما يدور.. كانت عجلة الحياة من حوله تزيد من إيقاعها كلما أسرعت خطواته.. صم أذنه عن كل ما حوله.. وأغلق عينيه.. واندفع يخوض غمار الطريق.. لكنه انتبه فجأة على صوت بكاء.

توقف..

نظر ناحية الصوت.. كان طفلا صغيراً.. يرتدي زي المدرسة.. ويحمل حقيبة ثقيلة فوق ظهره.. كان مستنداً على الجدار.. ودموعه تنهمر.. وصوته يتحشرج ببكاء حار..

اقترب من الطفل.. انحنى مواسياً.. سأله عما يبكيه.. قال الطفل وسط دموعه.. أمي تريد أن أذهب للمدرسة.. أجاب بتعاطف شديد.. ولم لا؟.. ألا تحب المدرسة.. أجاب الطفل بحرارة.. نعم أحبها.. ولكن.. كيف أذهب اليوم.. اليوم هو الجمعة.. وأمي تصر على أنه السبت.. وعندما اعترضت.. صفعتني.. وأجبرتني على النزول.. ولا أعرف أين أذهب؟ فأنا واثق من أن المدرسة موصدة الأبواب.. اليوم هو الجمعة.. ليس السبت.. أنا واثق من ذلك..

أحس براحة شديدة تغمره.. احتضن الطفل.. ضمه إلى صدره.. ثم اعتدل واقفاً.. أخذ يده الصغيرة في كفه الضخم.. سارا معاً.. قال له وهو يضحك...

هلم لنرى أين ذهب ذلك اليوم...

ابتعدا في الطريق.






 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد