بين البضائع والسلع وعروض التخفيض والواجهات المصقولة ومطاعم الطعام السريع الخالي من النكهة والفائدة بات السوق التجاري (المول) هو مكان التنزه العائلي.
تصطف الشركات العابرة للقارات وتتجاور، ومن ثم تشتبك في حروب سرية داخل المول، فوق أرض المستهلك الذي لا يعلم بأنه هدف لحرب سرية تستهدف غرائزه، لتلدغه بمرض الشره والرغبة في الاقتناء, عندها ينحدر في بئر ليست لها قرار ترافقه الرغبة في المزيد من الاقتناء، ومراكمة المقتنيات التي يظن أنها تمده بالرضا والتوازن النفسي, هذا كله داخل بالون إعلامي ضخم، يغرس في اللاوعي الجمعي شروط الجمال الجسدي والمظهر المتفوق، عبر تسويق محترف، فاللاعب المشهور يرتدي الساعة.. والمغنية المغناج ترتدي مجوهرات..
تتلاشى القيمة الإنسانية وتصل إلى مستوياتها الدنيا، ويتم تشيؤ الأفراد فقيمتهم ما يمتلكون، على حساب جميع القيم الإنسانية الإبداعية من فنون وفكر وآداب ومنتج علمي (الأزمة الاقتصادية العالمية هي إحدى نتائج حالة الشره والجشع لدى المستهلكين).
أذكر مرة في نيويورك سألت موظف الفندق: ما أكبر سوق في نيويورك يستحق الزيارة؟ فأجابني: نيويورك كلها سوق كبير!
هوليود تحذق صناعة شخصياتها وتنحتهم بشكل يقترب من الآلهة، ومن ثم تنزلهم إلى السوق لجمهور يريد أن يحظى بتذكار من المزار الجديد، في مدن ديزني العالمية لا يجد الصغار سوى محلات تجارية تبيع أثواب سندريلا, وأذني ميكي ماوس، وعلاقات مفاتيح عليها وجوه الأقزام السبعة الذين أنقذوا بياض الثلج، الأسطورة الجميلة التي كانت تفتننا ونحن صغار تحولت إلى سلع للاقتناء تتراكم في غرف الصغار، وتهيئهم للانزلاق في بئر (الشره الجماعي) الذي تصنعه العولمة وشركاتها العابرة للقارات.
وكم أحزنني أن أشاهد وباء (المول) يصل إلى مصر، التي نذكر في طفولتنا متنزهاتها الفرحة: كورنيش النيل، خان الخليلي، وريفها الناعس، لكن في آخر زيارة لي لمصر وجدتهم يتكدسون آخر الأسبوع داخل المجمعات التجارية ويحلمون بعالم سيصبح جميلاً وأكثر نضارة, مع اقتناء المزيد من المشتريات.
نزهة (المول) تقصينا عن أنفسنا، عن الطبيعة حولنا، تبعدنا عن اكتشاف نشاط بشري يحترم وعينا، تمنعنا من النمو نحو آفاق إنسانية أوسع وأعمق.