لو لم تكن تجارة التبغ تدر على صانعيها، وموزعيها، مئات المليارات لما حظيت بكل هذه الرعاية الخارقة التي سمحت لها بالتغلغل في المجتمعات بالرغم من كونها من (السموم القاتلة). هل يحتاج العالم إلى الاحتفاء باليوم العالمي لمكافحة التدخين لتبيان حقيقة أضرار التبغ على صحة الإنسان وسلامة البيئة؟
لا أعتقد، فالمدخن يقبل على السيجارة وهو عالم علم اليقين بحرمتها، وضررها على الصحة، والمال، والبيئة المحيطة.المشكلة لا تكمن في المعرفة، بل في انفصام المجتمع بين كراهية التدخين ومحاربته، وبين تسهيل عملية الحصول عليه والسماح بممارسته في الأماكن العامة، و في الأماكن الأكثر حرمة كمكة والمدينة المنورة.
وقفت أمام لوحة تحذيرية عن التدخين نصبت في الساحات الخارجية للحرم المكي الشريف، وما أن هممت بالمضي حتى لمحت أحدهم مشعلاً سيجارته دون أن يحفظ للمكان والزمان حرمتهما. جريدة (الجزيرة) نشرت الأسبوع الماضي صورة طفل يقوم ببيع علب السجائر في ساحات الحرم الخارجية في غفلة من الرقابة، وعدم اكتراث من المصلين والمعتمرين!. التدخين بات مألوفاً في الأسواق المطلة على الحرم، وصالات الفنادق، والأسواق المحيطة. كل ما أخشاه أن تعود (الشيشة) من جديد وتصبح قريبة من أيدي عاشقيها قرب الحرم!.
السماح للمدخنين بممارسة هوايتهم القاتلة في المطارات، الأسواق، المطاعم، المقاهي، الأماكن العامة، المكاتب يساعد في انتشار ظاهرة التدخين، ويحد من عملية الإقلاع عنه. كل سيجارة يتم إشعالها وتدخينها في العلن هي دعاية مجانية لمصانع التبغ، و بائعيه؛ الأطفال والمراهقون هم أكثر المتأثرين بالعروض (التدخينية) المجانية. أثبتت الدراسات أن احتمال تجربة التدخين لدى المراهقين المتواجدين بين مدخنين، أو القريبين منهم تزيد بمستوى الضعف عن أقرانهم البعيدين عن مؤثرات التدخين الخارجية. كما أن التقارير الطبية تفيد بأن التدخين السلبي، وهو استنشاق غير المدخن لانبعاثات سجائر المدخنين، بات يوازي في خطورته الخطورة التي يتعرض لها المدخنون أنفسهم. لن تحقق حملة مكافحة التدخين النجاح ما لم يرافقها سن تشريعات وقوانين صارمة تتعامل مع قضية التدخين بشفافية وحزم.
هناك جهود جبارة تبذلها جمعيات مكافحة التدخين في المملكة، إلا أنها تبقى محدودة التأثير ما لم تجد الدعم الرسمي من خلال الأنظمة والقوانين المساعدة على إنجاح برامجهم المميزة.
قد يقول البعض أن التدخين في المطارات، الوزارات، والإدارات الحكومية ممنوع بحكم القانون، ونقول إن هذه الأماكن بالذات هي أكثر الأماكن التي يُنتهك فيها نظام منع التدخين. أحد موظفي الخطوط السعودية وقف أمام البوابة 35 في مطار الملك خالد الدولي يجمع بطاقات صعود الطائرة وهو يدخن السيجارة غير مكترث بمن حوله!. وضعت الأنظمة والقوانين وتجاهل المُشَرِع تحديد الجهات المسؤولة عن تنفيذ النظام.
التدخين وصل المدارس الابتدائية عن طريق المتاجر المنتشرة حول المدارس التي تبيع الدخان ب(السيجارة الواحدة)، وانتشر بين النساء في المنازل من خلال توصيل الطلبات، والسائقين، ومن خلال المقاهي المختلطة التي توفر (المعسل) بنكهاته المختلفة، خاصة في رمضان، ووصل قبل ذلك إلى عقولهم من خلال الإعلانات الواقعية المجانية في الشوارع، المجمعات، المقاهي، الاستراحات، ومن خلال المسلسلات والأفلام، وعلى رأسها المسلسلات الخليجية الماجنة. ولا يمكن أن ننفي ما يحدثه الاختلاط المحرم الذي ينقل عادات الشباب القبيحة إلى المراهقات، ومنها التدخين والمخدرات والعياذ بالله. أكد المشرف العام على برنامج مكافحة التدخين في وزارة الصحة، الدكتور ماجد المنيف أن (ظاهرة تدخين الفتيات باتت مقلقة)، وأزيد أن ظاهرة تدخين الأطفال باتت أكثر قلقا. التدخين، وتدخين (المعسل، النارجيله، أو الشيشة) هو أحد الطرق المؤدية لتعاطي المخدرات، إن طوعاً أو كرهاً. بعض المجرمين لا يتوانون عن خلط مادة (الحشيش) في المعسل المقدم للمراهقين والمراهقات طمعا في دفعهم للإدمان، ومن ثم تحولهم إلى عملاء دائمين لتجار المخدرات. السوق السعودية هي الأكثر نمواً في بيع التبغ، ما يعني استمرار زيادة عدد المدخنين، وبخاصة الأطفال، المراهقين، والمراهقات، وهو أمر مخيف يستوجب التدخل السريع لكبح جماحه.
تجارة التبغ تدر أموالا هائلة على منتجيها وموزعيها، وهو ما يزيد من حرصهم على بقائها، وازدهارها، وإن تعارضت مع القيم الدينية والأخلاقية. تحويل الحكومة أرباح التبغ إلى خسائر من خلال قضايا التعويض، وإلزام الموزعين ببناء مستشفيات الأمراض الصدرية، ووضع الغرامات الصارمة على مخالفي قوانين بيع التبغ، وخفض هامش الربح من خلال الضرائب المباشرة وغير المباشرة قد تقود إلى تحجيم المشكلة والحد من انتشارها. رفع ضريبة التبغ لتصل إلى 200 في المائة، منع بيع السجائر في متاجر التجزئة، (السوبرماركات)، والمحلات الصغيرة (البقالات)، ووضع أنظمة صارمة بمنع بيع التبغ على الأطفال والمراهقين وتحديده بسن قانونية، وتشديد الرقابة على المحلات القريبة من المدارس، ومنع التدخين في الأماكن المغلقة، الأسواق، المطاعم، المقاهي، المطارات، الشركات والمؤسسات، وتحديد الجهة المسؤولة عن تحقيق الرقابة وتطبيق النظام، وفرض الغرامات على المخالفين، كل ذلك يمكن أن يساعد في الحد من انتشار سرطان التدخين في المجتمع السعودي. صرامة القانون هي السبيل الوحيد للقضاء على ظاهرة التدخين القاتلة.
F.ALBUAINAIN@HOTMAIL.COM