Al Jazirah NewsPaper Tuesday  16/06/2009 G Issue 13410
الثلاثاء 23 جمادىالآخرة 1430   العدد  13410
تشكيل الوعي المعاصر..! 1-2
د. حسن بن فهد الهويمل

 

من بواعث الشقاء المستطير أن يقعر الشجي رؤيتَه في الملأ المختصمين، وأن يضع نفسه في أتون الصراعات المختلفة، ولا سيما أنها صراعات لا يتبادلها المحقون ولا يتداولها المؤهلون لتكون في النهاية أقرب إلى اللجاجة وإضاعة الجهد والوقت. وكأني بمثل هذا النوع من الأشقياء يرون أنفسهم...

... موكلين بفضاءات الأفكار المتناقضة يزرعونها جيئة وذهابها لتسوية مشاكلها وحسم جدلها، وقدر المعذبين في الأرض الخوض مع الخائضين في لجج منفلتة على كل الضوابط، ولقد يتعلل هذا الصنف الشقي من الناس بمقولة الشاعر:

(ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

وأخو الجهالة بالشقاوة ينعم)

فالمتشائم والفضولي يتخلصان من المعاناة والإحباطات المرهقة بادعاء العقل الاستثنائي والوعي التام بما يدور في المشاهد كلها كما يرون أن مبعث الشفاء دقة الملاحظة وعمق النظرة والاهتمام بأمر الأمة، وعلماء النفس يجوسون خلال الأفكار غدوا ورواحا، ويُحوِّلون الفرضيات المتخيلة إلى حقائق علمية لا تقبل الجدل، ولا الاجتهاد ولا التساؤل ولكل عِلْمٍ أساطينه الذين يخولون أنفسهم رسم مسار الإنسانية، والتنقيب في تاريخ العلوم ومنجزها يؤكد أن علماء كل فن يَهَبُون أنفسهم حكم العالم ورسم مساره، فعلماء التربية والنفس والاجتماع والتاريخ و(الأيديولوجيا) و(الوجودية) و(الماركسية) يرون أنفسهم أبناء الله وأحباءه، وخلفاءه في أرضه، وظاهرة التعصب العلمي أدخلت المتناظرين في دوَّامة المفاضلة. حتى لقد امتد هذا الداء العضال إلى علماء التفسير والحديث الفقه والكلام، وكل يدعي الوسطية والسلفية فيما لا تقر الوسطية ولا السلفية لهم بهذا.

وتشكُّل الوعي في ظل هذه المتناقضات يجعله وعياً منقوصاً، حتى لقد شهدنا نقدا جنائزيا يقول: بموت النقد وموت النمو وإن كان قولا يركن إلى المجاز ولكنه يجسد التعصب المذهبي المقيت، وعلم الطبقات والمناقب يؤكد هذا الطائف المخل بالوعي، وفي ظل هذا التشبع والتسليم قد لا تجد من يجرؤ على الكلام بحق أي عالم تجاوز به أشياعه قنطرة المساءلة وبلغوا به حد العصمة والتصنيم، ولقد روى لي من أثق به أن مجموعة من الطلبة اتهموا وافدوا يخالف عالما جليلا يسلم له القوم، ولم يجدوا بدا من الوشاية به عند شيخهم الذي حِيزَتْ له السلطات كلها، لكن الوافد جمع أمره وجثا بين يدي ذلك العالم البصير وقال: لم يبعث الله للأمة إلا رسولاً واحداً، وكل عالم يؤخذ من كلامه ويرد إلا محمد بن عبدالله، مما كان من العالم البصير إلا أن بارك له موقفه وطلب منه تحرير مسائل الاختلاف، ولن يكون تَشَكُّل الوعي سليما إلا في ظل الشك والتساؤل وتضييق نطاق التسليم وتعزيز جانب الاجتهاد والتخفيف من دعوى احتكار الحق

وعندما نزلت آية: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ} اشتد ذلك على الصحابة فأتوا رسول الله، ثم جثوا على الركب، وقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق، وقد أنزل عليك ما لا نطيق، فكان أن نزلت {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} وما لا يطيقون حديث النفس حول عالم الغيب وهو تساؤل يعصف بالأفكار، ولا يثبتها إلا الإيمان والتسليم المطلق لإرادة الله الكونية والقبول المطلق بإرادته الشرعية، فقضاء الله وقدره نافذان على الجميع، ومربكان للجميع بمفاجآتهما التي لا تقع في الحسبان وهما سر الله في خلقه كما يقول الخليفة الراشد علي بن أبي طالب، إذ كل من تناولهما بالعقل المحض وقع في الضلال، فالروح والقضاء والقدر وعالم الغيب كافة من بعث وحساب وجنة ونار وملائكة وشياطين وذات إلاهية لا يحسم أمرها إلا الإيمان والتسليم، ومن ثم كان إيمان أبي بكر تسليماً فكان أول من آمن من الرجال وإيمان عمر جدليا فكان من قبل من ألد الخصوم ومن بعد من أقوى الأنصار، وكانت له أمنيات تدل على برمه من تقعير الرؤية وكثرة التساؤل، وصدق رسول الله حين قال لعمر ذات يوم: (أفي شك أنت يا بن الخطاب) إذا فالإيمان وحده الحاسم للعذابات الفكرية، وصدق الشاعر العربي الكبير أحمد شوقي في قوله:

(إذا الإيمان ضاع فلا أمان)

وليس الأمان للأجسام وحدها، ولكنه أمان شامل أمان للفكر والنفس والشعور والعقل، فالحياة السوية لا تكون إلا بالإيمان والتسليم وبدونه تكون جحيما لا يطاق، وأشقى الأحياء الملاحدة، والانتحار هو النهاية الطبيعية لهم، وقراءة حياتهم كما صورتها سيرهم واعترافاتهم تشي بعذابات لا تطاق، ومن عول على العقل وحده أفضى به إلى متاهات مضلة، فالعقل مرتهن بحواسه، وليست له مصادر أخرى، وتأمله لن يخرجه عن محصلة الحواس، وهو متيقن بخداعها، وأساطين الفلسفة أمثال (آينشتين) أدركوا ذلك، فكان منطلقهم من مصدرين فكريين: (الرياضيات) و(التجريب) وتخلف (الدين) لسلطان العقل أضل أمماً وتخلف (العقل) لسلطان (العلم) حول الأمم إلى درك المادة والانقطاع (للدين) أو (للعقل) أو (للعلم) أو لأي مذهب وضعي سيكون على حساب التوازن المطلوب، وتشكيل الوعي على ضوء تلك الخيارات سيكون مؤذنا بامتداد زمن التيه، ولن نمضي مع (آينشتين) في نظريته (النسبية) التي قلبت الموازين، ولكننا نذكر بنظريات شغلت العقل البشري ثم سقطت ولنا أن نستدعي نظرية (التطور) (الداروينية) و(النظرية الاقتصادية) (الماركسية) ونظرية (الوجودية) (السارترية) و(النظرية الجنسية) (الفرويدية) ونظريات أخرى سادت ثم بادت، وكلها أسهمت في تشكيل الوعي المعاصر فأربكته لقد هيمن الدين المحرف واستبد في تشكيل الوعي، ثم جاء العقل المجرد ليأتي بنيان الدين من القواعد، ولكنه لم يستطع إقناع الوعي وإن أسهم في تشكيله، ولما استهل القرن العشرون أقبل العلم بمعجزاته المذهلة فما كان في مقدور العقل المجرد أن يصمد أمام الاكتشافات المذهلة، والغريب أن كل تحول في الزعامات الفكرية ترهص لها الإبداعات السردية فرواية (الجحيم) ل(هنري باربوس ت 1935) هي التي جسدت اليسار (الراديكالي) وثلاثية (نجيب محفوظ) صورت ثلاث مراحل للتفكير: الدين والشك واليقين.

والوعي المعاصر تنازعته خطابات مضطربة ومتنوعة فالخطاب السياسي بثوراته المتلاحقة والخطاب الفكري بتجولاته المنهجية والنوعية والخطاب الديني بِحِدَّته وحَدِّيَّته وتمييعه وتصالحه وصدامه وخرافته ويقينه وعقليته ونصيته والخطابات الهامشية المتمردة على السوائد كلها تضخ في تجاويف الوعي ليكون أكثر اضطرابا وحيرة وترددا.

* * *

يتبع....



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد