مشكلتنا أننا عرب.. نعيش على الشعارات، نتلذّذ بالفتات، تهزنا الخطب، ترقصنا الكلمات، يشبعنا حضور مناسبات الكبار ورؤيتهم وهم يأكلون حتى ولو كنا جياعاً، نرتوي من ماء النهر وإن كنا لا نملك إناء، ننتعل بالرمضاء ونلتحف الشتات ومع ذلك بيت شعر ينسينا الحر والشر والدمار، تغرينا الابتسامة الصفراء بمسح الحدود بيننا وإعادة رسم الخريطة من جديد، واقرؤوا التاريخ العربي إن كنتم لا تعلمون، لا نعرف للمستقبل نافذة، ولا نفتح للقادم باباً، آه.. كم كان الماضي جميلاً، وجزماً نعتقد في قرارة أنفسنا أن القادم من الأيام أجمل ولا دليل!! عاش آباؤنا على أهازيج النصر وطبول الفتح المبين، وكانت الهزيمة فقط مجرد نكسة!! هكذا يقولون ونحن نقرأ، ونهز الرؤوس!! دراويش هم أولئك الذين كانوا يحسبون المعركة (نكون أو لا نكون)، مستهترون من قادوا الأمة العربية إلى مستنقع الدم عبر نبرة الصوت المرتفعة والكلمات الجزلة واحمرار الوجه وإعلان التنحي عن العرش إمعاناً في الحب والوفاء والطهر والنزاهة، متغطرسون من يزعمون أننا نحن عيال النفط، رجعيون متخلفون، ثقافتنا ثقافة صحراوية قاسية، جعلنا الله عالة على العقلية العربية الفذة!! مهزومون في داخل ذواتهم: من يدّعون أن وقوفنا على أرض الغرب هو سرّ الخلاص من الخطيئة الكبرى التي تكبّلنا، تسرّبلنا من أخمص أقدامنا حتى مفارق رؤوسنا.. ضاعت خطانا، تمزّقت دفاترنا، فشلت كل مشاريع النهضة العربية بلا استثناء، بل داس أراذل القوم على كرامة العربي باسم العروبة ومن أجل القضية، والنتيجة: رسب الجميع، وما زال التصفيق وصوت الرئيس يهزّ الرؤوس حتى اليوم، كم هم المستفيدون من القضية، كم أولئك الرافعون لشعار الانهزامية في زمن الانكسار، كم وكم حكايات مرة لا ترويها القصص ولا تستطيع أن تدوّنها الأيام لأن المزورين هم نحن القراء، والكتاب تحت الثرى، ميتون وإن كانوا أحياء، أي عروبة هي التي يراد لها أن تكون، عروبة العروق والدم، عروبة القيم والفضائل، أم عروبة الورق التي لم تستطع أن تحدد ماهيتها منذ المؤتمر العربي الأول في باريس عام 1913م وحتى اليوم، منذ زكي الأرسوزي وشبلي ومشيل والبيطار وساطع وحتى جبور وزريق والرزار والصفدي وحمروش وسعد الدين إبراهيم والأسماء كثيرة ولكن ما النتيجة!! أي ثقافة عاصمتها القدس تلك المدينة الأمل، التي لا نعرفها نحن الجيل الجديد إلا مدينة الأخبار المؤلمة والمجازر المحزنة، لا نعرفها إلا بلون الدم وأهازيج الموت حتى القصائد والقلائد تكتب على سور المقبرة وتلقى في ساحة المعركة، أي فلسطين هي: بلد الزيتون والسلام أم دولة الأشباح والظلام؟ وأي عام هو العام الذي عنه تتحدثون؟ لا أدري صدّقوني لا أدري، واعذروني لجهلي، ولكنني عرفت العواصم، عرفت الثقافة، عرفت الهوية، ولم أجدها في الشعار العربي الذي ترفعونه اليوم (القدس عاصمة الثقافة العربية عام 2009م) جزماً لا يهمكم من أنا، نعم أعترف أنني لا أعدو أن أكون مجرد رقم واحد، عربي نكرة حاول مد المحيط وجزر الخليج أن يجرفني، يقتلعني من جذوري السلفية، يطيح بي، يوظفني من أجل القضية، ولم يستطع، نعم لم يستطع لأنني عرفت الزبد والماء المالح، علّمني والدي رحمه الله أنني حين أعطش أن أشرب من ماء النهر، من الماء الزلال ولا أقترب من الماء المالح فهو يزيد العطش وفي النهاية يقتلني، بصدق أنا رقم ولكنني أتحدى كل الأرقام العربية، أتحداها أن تحدد لي معنى العروبة وحدودها وسرّ وجودها، أتحدى رموز الثقافة العربية أن يقولوا: ماذا يعني هذا المصطلح بشرط أن يكون التعريف جامعاً مانعاً أيها المثقفون؟ لنفق لأنفسنا أيها الرموز في زمن المكاشفة، لنعرف من نحن العرب، وماذا نملك، وما هي مشاريعنا الثقافية، لنتعرّف على بعضنا البعض عن قرب، ليست ثقافتنا العربية قصيدة أو قصة أو مسرحية أو أنشودة المطر أو دبابة ومدفع، ثقافتنا نسيج حياة وعنوان وطن ومنهج بناء وراية عز وسلوك أمة ولوحة عطاء ورؤية مستقبل وإرهاصات واقع وتجارب جيل ومن قبله أجيال.. إنها نهر لا ينضب وماء رقراق لا يعرفه ولا يتلذّذ بحلو طعمه إلا العربي الذي يعرف معنى الأصالة ويتوسد عباءة العربي ويتلذّذ في حياة الخلاء التي تعيد للنفس توازنها وترسي للبيت أطنابه وتربينا كيف نعيش أيام الشدة والرخاء وفي نفس الوقت تجيب على سؤال الأشقياء عنا، الذين يسكبون الدموع عند حائط المبكى في العاصمة العربية القدس التي تحتفل بالثقافة العربية ولا عرب ولا وجود للكتاب العربي هناك، وإلى لقاء والسلام.