مرَّ المجتمع السعودي ويمر بتغيرات سريعة لم يسبق لها مثيل في التاريخ؛ فخلال أقل من أربعين سنة تغير كل شيء في حياة المجتمع، ولم يبق من معالم وأدوات وصور الحياة القديمة إلا ذكراها، وبعض آثارها الممثلة في التحف وبعض الأدوات التي كانت تستخدم.
لقد عاشت الأسرة السعودية في الفترة التي يسميها علماء الاجتماع بفترة التغير البطيء والتي امتدت من عام 1351هـ إلى عام 1390هـ عيشة مستقرة؛ فنسب الطلاق كانت متدنية، والعلاقات الأسرية كانت قوية، وكانت هناك أشياء كثيرة مشتركة بين أفراد الأسرة التي في معظمها أسرة ممتدة تتكون من الأم والأب والأبناء وزوجاتهم والأحفاد، وكان الجميع يكافح من أجل توفير لقمة العيش، وتتشابك العزائم والأيدي والأفكار في سبيل ذلك، ولم يكن هناك أوقات فراغ تسمح للخلافات بأن تزيد وتتفاقم، ولم يكن هناك وفرة تجعل الفرد يستغني عن غيره من أفراد الأسرة، وبدأت التغيرات تتوالى من ارتفاع في مستويات المعيشة، وتوفر وسائل الحضارة المعاصرة من كهرباء، وسيارات، وأدوات منزلية، وأدوات الترفيه، وعمالة بأنواعها، وسفر إلى الخارج، وأدوات اتصال وإعلام.. وفي ظل تلك التغيرات تأثرت العلاقات الأسرية، وبدأ عليها الكثير من علامات التوتر والتصدع والوهن، نرى ذلك في كثرة وتزايد المشكلات الأسرية، من طلاق، وعنف، وضعف في العلاقات، وضعف في سلطة الوالدين، وعناد وعصيان من قبل الأبناء، وضعف في صلة الأرحام، وضعف في التواصل بين الأقرباء.. وفي ظل هذه التغيرات بدأت الكثير من المؤسسات الحكومية والخاصة تدق ناقوس الخطر، وتحاول أن تجد الوسائل والأدوات لحل تلك المشكلات بعد دراستها وتشخيصها ومعرفة أسبابها، ووصف العلاج والدواء الناجع لها.. ويأتي علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية وعلم النفس والتربية في مقدمة العلوم التي تُعنى بمثل هذه القضايا باعتبارها من القضايا التي تحدث تأثيرات كبيرة في الميدان الذي يغطيه كل علم من تلك العلوم.. وتراكمت بعض المواد العلمية التي تتيح للباحث والمتخصص وصف المشكلة، ووصف العلاج الناجع لها، وتبين أن هناك نقصاً حاداً في ثقافة كثير من الشباب والشابات حول الحياة الأسرية، وما تتطلبه من مسؤوليات لكل طرف من أطرافها، وخاصة الطرفين المؤسسين للأسرة وهما الشاب والشابة؛ فالثقافة الأسرية التي كانت تنتقل بالمعايشة وبالقدوة من الجيل السابق للجيل اللاحق ضعفت لقلة الاحتكاك داخل البيت؛ فإذا كان الزوجان يعملان فإن اجتماعهما في المنزل لا يتم إلا في ساعات محدودة من النهار، وتحول المنزل إلى فندق صغير، كل فرد له برنامجه الخاص، ينام ويأكل ويخرج من البيت ويعود إليه بطريقة خاصة، وقد يمر أيام لا يلتقي الأب بأبنائه، وخاصة إذا كانوا في سن المراهقة، يضاف إلى ذلك أن الشباب اليوم يعيشون في بحبوحة من العيش، ويعتمدون على الوالدين، وعلى الخدم في توفير متطلبات الحياة؛ فلم يمروا بمرحلة المعاناة والتعب والكد التي مر بها الجيل السابق، وأصبح الجيل الجديد في معظمه لا يقدر الكثير من القيم التي أمرت بها الشرائع السماوية، والأفكار الوضعية وفي مقدمتها ما أسميه بأم القيم، ألا وهو الصبر، والصبر يقتضي تحمل المسؤولية، والقيام بالواجب، والإيثار، والبعد عن الأنانية، ومن تلك القيم قيمة الحلم والأناة وعدم الاستعجال في الأمور، ومحاولة قطف الثمار قبل نضجها، تلك العوامل وغيرها جعلت الكثير من الأسر التي يكونها الشباب تتحطم في شهورها الأولى، وتنتهي رحلتها بالفشل.. هذه الظاهرة أوجبت على العقلاء ومراكز البحث العلمي والمؤسسات التفكير والعمل لإيجاد حلول لها، وقامت كثير من المراكز بتصميم وتنفيذ دورات متخصصة تركز على عوامل نجاح الحياة الزوجية، وقيادة سفينة الأسرة إلى بر الأمان، وتجنيبها العواصف والأعاصير التي قد تقضي عليها، وهذا الأمر تم القيام به في بلدان أخرى، منها ماليزيا التي انخفض فيها الطلاق بعد تلك الدورات بنسبة تقارب الخمسين في المائة، وفي جدة تمكن مركز (مودة) من حل ما يقارب 50% من المشكلات الزوجية التي وصلت إلى المحاكم، وعاد الزوجان إلى عش الزوجية من جديد، وقبل عدة سنوات أجبرت الجهات الرسمية مَن يفكر بالإقدام على الزواج أن يقوم بالفحص الطبي قبل الزواج؛ للتأكد من التوافق بين الطرفين، ولقد كان لذلك القرار تأثيراته الإيجابية على الحياة الأسرية، وتجنيب الجيل الجديد الكثير من الأمراض الوراثية، وإذا كان الفحص الطبي أصبح إلزامياً وشرطاً ضرورياً لعقد الزواج، فيمكن اقتراح إلزام كل من الشاب والشابة المقدمين على الزواج بالالتحاق بدورات تدريبية مكثفة حول الأسس والقواعد التي تجب مراعاتها لبناء أسرة سليمة قابلة للاستمرار، وأن لا يسمح بكتابة عقد القران من قبل مأذوني الأنكحة إلا بعد أخذ تلك الدورات، وإحضار شهادة بذلك، وهذا يتطلب تجهيز فرق من المرشدين المدربين لتقديم تلك الدورات في جميع مناطق المملكة، وأن تقدم تلك الدورات مرتين في العام على الأقل، مرة في نهاية كل فصل دراسي، وأن تكثف الدورات قبل فصل الصيف حيث تكثر الزواجات، ويقبل الشباب على إقامة احتفالات زواجهم أثناء عطلة المدارس.. إن تطبيق مثل هذا الاقتراح يحتاج إلى إرادة عامة وخاصة، فأما العامة فمن قبل ولاة الأمر - وفقهم الله - بأن يصدروا أوامرهم بذلك، وأما الخاصة فتتعلق بالجهات التي تقدم تلك الدورات، ولعل وزارة الشؤون الاجتماعية هي الوزارة المرشحة للقيام بذلك بالتعاون مع الجمعيات الخيرية، والمراكز المتخصصة في الشؤون الاجتماعية والأسرية، ويجب أن تشارك الوزارات والجهات ذات العلاقة في تلك الجهود، مثل الجامعات، والجمعيات العلمية، ووزارة الإعلام، والشؤون الإسلامية، ووزارة العدل، ووزارة التربية والتعليم. إن مثل هذا المشروع سوف يسهم في التقليل من المشكلات الأسرية، وسوف يساعد الأسرة على القيام بدورها الحيوي والبناء باعتبارها خط الدفاع الأول ضد الانحرافات الفكرية، والصحية، والسلوكية، والتربوية، والأمنية. وإذا صلحت الأسرة صلح المجتمع كله،؛ فهي بالنسبة للمجتمع بمثابة القلب من الجسد. وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، ووفق جميع الأسر للقيام بوظائفها وواجباتها.
* أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام، رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية لعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية
zahrani111@yahoo.com