عاودني شوق جارف إلى قراءة بعض ما سطره قلم ذلك الأديب المتألق الشيخ الفاضل علي الطنطاوي - يرحمه الله- تعالى، وكان من أول ما وقعت عليه يدي كتابه الجميل الرشيق لفظاً وأسلوباً ومعنًى، (من حديث النفس)، وهو كتاب يقع في أكثر من ثلاثمئة صفحة من القطع المتوسط نشر عام 1960م، وهو يحتوي على ست وثلاثين مقالة كتبها الشيخ بين عامي 1931م - 1959م، وإذا كان الأديب المجيد أقدر من غيره على تصوير خلجات النفس، فإن قدرة الطنطاوي أكبر؛ لأن مقدرته على الصياغة أكبر، ولأن ثقافته أوسع، ولأن حضور شخصيَّته في أحداث الأمة أوضح وأشهر.
|
من أطرف المقالات في هذا الكتاب تلك المقالة الطريفة التي عرض فيها الشيخ علي شهادته الجامعية للبيع مؤكداً أنه يريد بيع تلك الورقة التي تسمى شهادة جامعية، مستثنياً من البيع قناعته، وقيمه، وأفكاره، ومشيراً إلى أن هذه الشهادات تصبح عديمة الجدوى إذا أصبحت عرضة للبيع والشراء، ولك أن تتخيل مدى السلاسة والطرافة التي تحققت لقلم الشيخ الطنطاوي في موضوع طريف (ساخر) كهذا الموضوع.
|
واستوقفتني كلمات ذات دلالات بعيدة، وردت في مقالته التي تناول فيها عمق علاقة المؤمن بربه عزَّ وجلَّ في سرائه وضرائه حيث يقول - جزاه الله على ما قال خير الجزاء -: (سيظل الناس تحت أثقال العزلة المخيفة، حتى يتصلوا بالله عز وجل ويفكروا فيه دائماً في أنه معهم، وأنه يراهم ويسمعهم، هنالك: تصير الآلام في الله لذة لا تساويها لذة، والجوع في الله شبعاً، والمرض صحة، والموت هو الحياة السرمدية الخالدة، هنالك لا يبالي الإنسان ألا يكون معه أحد، لأنه يكون مع الله).
|
كلام مضيء كل الإضاءة ذكرني بتلك الجلسة التي ظلت وستظل - بإذن الله - منقوشة في الذاكرة مع الأديب الأريب الشاعر الرقيق عاطفة، التألق شعراً (عمر بهاء الدين الأميري) - يرحمه الله -، حيث كان لقائي الأول به في الرياض وأنا طالب في السنة الثانية في كلية اللغة العربية، وقد أهداني ديوانه المتميز (مع الله)، وهو الديوان الأول - حسب علمي - الذي سبح فيه صاحبه في آفاق التعلق بالله عز وجل ذكراً وعبادة ومدحاً وحمداً وشكراً، في أرقِّ لغةٍ وأسلسها وما زلت أذكر قوله: إذا كنت يا بني تريد أن تظل سعيد القلب، وإن عصفت عواصف الشقاء، فكن مع الله، لأنك إذا كنت مع الله استطعت أن تترفع عن سفاسف الحياة، وتترقى عن عثرات آلامها وأحزانها.
|
رحلت من جديد مع الشيخ الأديب علي الطنطاوي الذي كان في حياته ملء السمع والبصر، وظل بعلمه وأدبه وذكرياته بعد موته ملء السمع والبصر، أنصحكم بالدخول إلى عالمه الجميل.
|
|
كن مع الله فالحياة نضال |
رُبَّ صوتٍ تجيبه أصواتُ |
|