Al Jazirah NewsPaper Monday  08/06/2009 G Issue 13402
الأثنين 15 جمادىالآخرة 1430   العدد  13402

الهروب للأمان في مرابع الصمَّان
عبد الله الصالح العثيمين

 

أكتب هذه السطور وكثير من أبناء أمتنا يحلِّقون في جو من النشوة بما سمعوه من كلام مدغدغ للعواطف عن الإسلام، ديناً وحضارة، وعن معاناة من يعانون منها. وما أحوجنا إلى مثل هذه الدغدغة المشكورة من شخصية ألمعية تعرف كيف تصوغ العبارة صياغة بديعة!

لقد برهنت أمتنا في العقود الأخيرة بالذات، ممثلة في أكثر زعاماتها، أنها أمة شاعرة تؤثر فيها العاطفة، لا العقل، وتطرب للكلمة المموسقة أكثر من تأملها في مجريات الواقع ودلالاته الحقيقية. وهذا الموقف المبرهن عليه ينسجم انسجاماً تاماً مع الحكمة التي تتبناها أمة شاعرة مثل أمتنا الحاضرة، وهي أن (الكلام الليِّن يغلب الحق البيِّن). وإذا كان هذا هو الحكمة المبناة فما بالك إذا كان الجو مهيئاً لتبني هذه الحكمة الآن أكثر من ذي قبل.

حينما تكون قنيان النخيل مرمخة فإن أي نسمة ريح تهب عليها تجعلها تتساقط. وكل ذي بصر وبصيرة بأوضاع أمتنا يدرك أن هذه القنيان مرمخة من زمان. وما دامت قد هبت نسمة من ريح رخاء من عذب لسان فقد آن لتساقط رمخها الأوان، ولله في خلقه شأن.

قد يقال: إن ما يجري على الساحة من أمور خاصة بقضايا جوهرية من قضايا أمتنا أجدر من غيره بالتناول. وهذا صحيح. لكني من الذين يتفادون الحديث عن أمور مهمة في جو مشحون بالعواطف خوفاً من انسياق وراء عاطفة أو خشية أن يفهم هذا الحديث في ظلها فهماً غير المراد منه.

لذلك آثرت عدم الكلام في هذه الأيام حتى (يفتك الهيس من الميس)، كما يقول المثل الشعبي، لتكون درجة الانفعال العاطفي أقل حدة، وتعود النفوس إلى نوع من التأمل فيما يجري واقعاً محسوساً، لا ما يقال دغدغة لعواطف وإثارة لنشوة. فما العمل؟

لم أجد أسلم، في بحثي عن واحة أمان، من الهروب إلى مرابع الصمان. وهي منطقة عزيزة من مناطق الوطن الواسعة. وكانت -وما زالت- من أجود المناطق الرعوية. ولذلك لم يكن غريباً أن تنافس عليها المتنافسون من البادية قبل أن تنعم البلاد بالوحدة والاستقرار، ولم يكن غريباً، أيضاً، أن تغنى بها المبدعون من الشعراء، وإن كانت مع شقيقتها وجارتها الدهناء مبتغى الشاعر الفارس راكان بن حثلين عندما أدى من البطولة ما أدّى، وأراد من كانوا يسجنونه مكافأته على دوره البطولي.

وكان المنقذ المفضال، من قتام جول الحال، الأخ الكريم والباحث العصامي، الذي عشق معاناة البحث، واستطاب تعب الدراسة سعد بن عبدالعزيز الشبانات. كان من لطفه وكرمه أن أتحفني، مشكوراً ومقدراً، بالجزأين الأول والثاني من كتابه القيِّم عن الصمَّان. فنشرت قراءة سريعة له في ثلاث حلقات عام 1422هـ. ومما قلته إشارة إلى عشق مؤلفه الفاضل للبحث: إنه استهلك رصيده من الإجازات الرسمية، وعمل بجد ليلاً ونهاراً متعدياً على حقوقه الأسرية والاجتماعية لكي ينتصر في حربه مع الوقت. ومع أن من الحب ما قتل فإن تصميم ذلك العاشق المتيم قد انتصر في نهاية المطاف. بل إن هذا الانتصار لم يكن انتصاراً ذاتياً فقط، وإنما هو انتصار لكل عشاق البحث ومحبي الدراسة الجادة.

وكانت الطبعة الأولى من ذلك الكتاب القيم قد صدرت عام 1419هـ بتقديم أستاذ كبير من أساتذة الجيل هو العالم سعد بن جنيدل، رحمه الله، وهو من هو جلالاً وقدراً. ثم أعيدت طباعته بعد نفاد الطبعة الأولى والإفادة من ملحوظات من كتبوا عنه، وقدم لهذه الطبعة الجديدة علامة الجزيرة العربية ورائد أساتذة الجيل الشيخ حمد الجاسر، رحمه الله، وكان مما قاله في مقدمته: (لا أكون مبالغاً حين أقول بأنني تمنيت أنه وقع تحت يدي مثل هذا الكتاب حين بدأت في تأليف القسم المتعلق بالمنطقة الشرقية من المعجم الجغرافي للبلاد العربية السعودية. وعمل يقول عنه الشيخ حمد مثل ذلك القول لا بد أن يكون ذا منزلة رفيعة في ميدانه. وقد أبديت في قراءتي تلك للكتاب ما رأيت أن وجوده فيه سيزيده روعة وفائدة.

وفي الأسبوع الماضي أسعدني أخي الكريم سعد، مؤلف الكتاب المنقذ من قتام ما عليه الحال بالنسبة لي، وتفضل علي بالجزأين الثالث والرابع من كتاب (الصمّان). وقد صدرا هذا العام عن طريق دار عالم الكتب. وقدم لهما أستاذي الجليل معالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر، زاده الله توفيقاً.

ومما ورد في مقدمته ما يأتي:

(ها هو الكتاب جاء في جزئيه الجديدين الثالث والرابع وافياً في موضوعه، متقناً في منهجه، سلساً في أسلوبه، محيطاً بجوانب الفائدة المرجوة من إعداده وتأليفه وطبعه. وهو يعد من المراجع الجغرافية المهمة، ولا يستغني عنه أي فرد مهتم بمثل هذا الإنجاز الجغرافي المقدر. وسوف يكون العدة الوافية لمن يريد أن يطرق الصمان لأي هدف). وبعد أن أثنى على الكتاب بما هو جدير بالثناء قال (والحق أن مؤلفه يستحق درجة الدكتوراه، فائدة وافية كافية).

وإذا ضُمت هذه الشهادة من علم ثقافي علمي من أعلام وطننا العزيز إلى شهادتي العالمين الرائدين سعد بن جنيدل وحمد الجاسر، رحمهما الله رحمة واسعة، تبين مقدار ما أنجزه الأخ الكريم سعد الشبانات في كتابه السفر القيم ذي الأربعة أجزاء من بحث رفيع ودراسة فريدة.

والواقع أن كتاب الصمَّان، وبخاصة والحديث عن الجزئين الثالث والرابع منه، روعة في إخراجه، عرضاً وصوراً، وكنزاً في محتواه، معلومات مستقصاة وتتبعاً نادر المثال ومن ذا الذي تتاح له فرصة اقتنائه فيحرم نفسه منها؟ فجزى الله مؤلفه الكريم خير الجزاء على ما قام به، وأكثر أمثاله من ذوي العطاء البحثي الجاد والدراسات الشيقة المفيدة.

ولأن لي بعض الاهتمام بالشعر، لا سيما ما هو مكتوب بغير الفصحى، فإن هناك بعض الأبيات الواردة في الكتاب تحتاج إلى مزيد من التدقيق.

من تلك الأبيات ما ورد (ج3، ص426):

لي صاحب ورا الشملول

بيني وبين الغضي شوحه

وصحته، فيما يبدو،

لي صاحب من ورا الشملول

بيني وبين الغضي شوحه

وورد (ج3، ص 430):

أم المصران والمعترضه تشوقك

تدرج بها الحبارى مع الرهايا

وتخفى عليَّ صحته:

وورد (ج3، ص 431):

أقفى ظعنهم بلا روّاد

لا وإلى اقفت نشوره

أدنى مداهيلهم عوّاد

والا ورا مبهل وقوره

وصحته البيت الأول:

أقفى ظعنهم بلا روّاد

لا والذي اقفت نشوره

أو

أقفى ظعنهم بلا روّاد

لا والذي قفّت نشوره

وورد (ج3، ص 483):

تحدّر على الطيري رعودها لها رنّات

وطى (معقلا) حل طيحة مشاريبي

وصحة صدر البيت أن تكون كلمة (رعودها) إما رعوده أو رعدها.

وورد (ج4، ص 6):

جعل الحيا ينشي ولا ياتي الصلبوخ

على العرق من فوقه وهو تيبس عروقه

عدام العشاير جعله الله عديم الروح

عسى شهب الارض تستلم عروقه

ومن الواضح أن الكلمة الأولى في صدر البيت الأول (لعلّ) بدلا من جعل.

أما البيت الثاني فقافية صدره لا بد أن تكون كلمة غير كلمة (الروح) لأن قافية صدر البيت الأول خاء. وأما عجز البيت الثاني فيحتاج إلى تدقيق ليستقيم وزناً.

وورد (ج4، ص 122):

مالي بواسه ولا من نزلها

في الحرملية لا زما لي جبلها

ويبدو أن صحة صدر البيت: (ما لي أنا بواسه ولا من نزلها).

وورد (ج4، ص 178):

يا والله اللي شد العماني

من جو عنز جاذبه شوف برّاق

ويبدو أن صحة صدر البيت: (يا والله اللي شد ذاك العماني) أو نحو ذلك.

وورد (ج4، ص267):

من ذاق عشب القفر عاف الدمانه

ومن يشرب الصافي عاف الصرية

ويبدو أن صحة عجز البيت (ومن يشرب الصافي يعاف الصريه).

وورد في الصفحة السابقة نفسها:

يا بعد شوف القراين وشوف الكنهري

شوف اللجفة وشوف المعن الصراة

ديرة لو كان ماها يباع وينشري

كان ربح اللي يبيعه ويشتريه

أما عجز البيت الأول فلم أهتد إلى توجيهه. وأما عجز البيت الثاني فيبدو أن صحته: (كان ربح اللي يبيعه ويخسر من شراه).

وورد (ج4، ص 434):

ليتني أنا ما جيت ماقع سرابه

ذكرت عيني منازانا القديمة

ويبدو أن صحته:

ليتني ما جيت إلى ماقع سرابه

ذكَّرت عيني منازلنا القديمة

أما في الختام: فالشكر الجزيل لأخي الكريم الباحث العاشق لأرض وطنه وقومه سعد الشبانات على لطفه وكرمه بإتحافي ببحثه القيم ودراسته النادرة النوع. والشكر المضاعف له على أن كانت هديته الثمينة منقذاً لي من قتام حال أمتنا السياسية الحرجة، وإن كان مفعول هذا الإنقاذ ليس مما يُحظَى به كثيراً. وفق الله الجميع للخير.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد