(عليه أن يرتكب أحد مخازيه حتى تسقط الدموع المتحجرة من عينيه ويستريح.. دموعه لا تمطر بالحزن، دموعه يستمطرها الخزي. دموع الرجال الذين ينهضون من السحق. الرجال الذين تكسَّرت في دواخلهم دواعي البكاء.. ستبقى هذه الدموع متحجرة إلى أن يأتي يوم موته. عندئذ سيهبها لمن يريد أن يبكي عليه..)
إنها دموع الرجال الذين أقاموا رواية (شارع العطايف) في فصولها الثلاثة، ولكل فصل بطل بائس.. الأول فحيج الذي اُنتهك جسده وروحه، وأصبح الانتقام ممن انتهكوه مسوغاً جوهرياً لحياته.. والثاني شنغافة الذي خُطِف وهو طفل، باعوه في سوق النخاسة، ثم عُتِق ليقرِّر مصيره وليس لديه غير حرية موحشة أشد قسوة من العبودية.. وثالثهم سعندي الذي فشل في الدراسة والعمل والحبِّ، وصار هارباً نحو سفر دائم يقتله ببطء..
تمرغ الثلاثة في أنين الخيبة مع شتى صنوف الأذى.. حتى ذواتهم وقفت ضدهم وهم منغمسين في معمعة الجحيم.. كأنه انتحار لا واعٍ، في عالم متعفن لا يستحق أن يُعاش.. ليصبح الموت سيد الخيارات.. وفي غمرة الموات، وجدوا دائماً حباً شغوفاً كان ينتظرهم.. فحيج وحبيبته نوف، شنغافة ومعشوقه معدية، سعندي مع بنت مستورة.. الملجأ الوحيد الذي يمنحهم الإحساس الإنساني الأليف بالأمان.. اللحظات الوحيدة التي يعيشها كل واحد كإنسان جدير بأفضل ما في الكون: الأنثى سيدة الحياة.. هنا كل لحظة تستحق أن تُعاش دهراً.. وبين عالميِّ الموت والحياة كان الخيار بالمرصاد، أو كما قال عبدالله بن بخيت (الحياة فخ. إنهم يحاولون الخروج من هذا الفخ والبقاء فيه بنفس الوقت).
في روايتنا هذه، عليك أن تعشق أو تموت! فعشق امرأةٍ مفعمة بالأنوثة هو المصير الذي وحَّد المظهر العام لمسيرة كل واحد منهم خارج سياج الشقاء الذكوري، رغم أن الرواية لا تعمل أي توحيد أو ترتيب مسبق، بل تترك الحياة بكل خشونتها ونعومتها تخط طريقها، لدرجة تحس معها أن الروائي يعاند ما نتوقعه منه، ويضع مسيرة مختلفة عما يريد أن يرويه، كأنه يتحدى خياله وينأى عن غواية الانجذاب نحو المتوقع.. يتحدى خياله العادي نحو خياله المتمرد، معيداً تركيب التفاصيل المهمَلة وحثالة العواطف المنسية ليبدعها بصورة جديدة.. متساوقة مع ما أشار ماثيو آرنولد: (وظيفة المبدع لا تقوم على اكتشاف الأفكار الجديدة، بل تقديمها في تركيبات إبداعية جديدة.).
الفصول الثلاثة لم تسرد حكاية كل بطل سرداً تراكميا، فلم تُغر الروائي أية حكاية يسردها.. فهمُّه كان الصراع الداخلي للشخصيات المحطَّمة وتشظيها من الداخل.. كان يلتقط الشظايا المتَّسخة ويصنع منها تحفاً أنيقة.. كان يُبدعُ روايةً لا حكاية. الحكاية إذا تمادت في حبكتها السردية المتراكمة عجزت على الفن الروائي ولجأت إلى الأحداث الخبرية المشوقة تشويقاً سريع الانطفاء.. فلم يُغرِ الروائي الانجرار إلى المؤقت.. ألم يقل ابن بخيت إن (الحكاية آخر شيء يطرأ على كاتب الرواية)؛ بل لا يتوانى الروائي هنا من تمزيق حكايته إذا شعر أنها ستسيطر على السياق.. سارداً روايته بطريقة التقطيع.. فقد يخبرك عن نهايتها في وسط أحداثها وربما في بداية الحدث (فلاش باك)، كما فعل مع حالة شنغافة حين يروي كيف سيق إلى ساحة الإعدام بينما سيرته لما تزل في بدايتها.. بل قد يقوم بإيقاف مسلسل الأحداث لإحدى الشخصيات دون أن يخبرك ما جرى لها، مانحاً خيالك فرصة العبث، كقصة معدية التي اختفت بطريقة فاجعة..
لم يكن الروائي شاهد عيان توثيقي يخبرك ما يُرى بطريقة الحكاية، بل يغوص في الحدث الداخلي ليروي ما لا نريد أن نراه.. كان يقيم واقعه السحري ويحشد التفاصيل ويضخها في بالون الحدث دماً ودموعا.. يضخُّ يضخُّ حتى تنفجر في وجهك مياه الأسى وتغسل ما تراكم في ضميرك من غبار الحياة اليومية.. قسوة بالغة لا تنفِّرك بل تستحثك.. قسوة تستلهم إنسانيتك، فلا يأتيك ما تتوقع.. وفي اللاتوقع تجيئك أحداث تتفتق حبَّا.. هكذا تتفجر الحالات أمامك حناناً وقسوة لتنغرس شظاياها في روحك..
وإذا كان الروائي غير عابه بالحكاية، فمن الجلي أن يكون زاهداً في الوعظ والإرشاد.. لم يكن يُقيِّم ولا يُصنِّف الخير والشر في الشخصيات، لم يذمّ ولم يمجد سلوكاً بعينه، بل ترك الحياة تقرر حركتها، فليس في الطبيعة حسن وقبيح بل صورتها ذاتها كما هي.. الإنسان وحده هو الذي يسبغ عليها خيراً أو شرا.. فقد فعل أبطال الرواية أبشع الأفاعيل وفي نفس الوقت قاموا بأرق وأسمى ما يقوم به إنسان.. كانوا شجعان وجبناء في وقت واحد.. كانوا بشراً ينضحون بالحياة بكافة تناقضاتها، مشغولين بتحقيق ذواتهم.. دون الحكم عليهم أخلاقياً، فالروائي ليس قاضياً ولا واعظاً ولا باحثاً اجتماعياً.. إنها الرواية المستقلة التي تترك أحكام الفضائل والرذائل للشخوص داخلها يُقيمون بعضهم ولا تفرض أحكاماً قادمة من خارج فضائها الفني..
كان الروائي غير مكترث بالحكمة المصطنعة، بينما الرواية تنضح بالخبرة الذاتية والحكمة الضمنية.. هذا هو قدر الرواية المبدعة، فبعد أن تنجح في مهمتها وهي الإمتاع عبر الإبداع الفني تنفرج تجارب معرفية عديدة غير مقصودة من الاجتماع والنفس إلى السياسة والفلسفة ينتجها التأمل الفني، فكما قال كانط في تقييمه للفن كتجربة معرفية:(إذا ما تركنا أنفسنا للتأمل الفني، دون البحث عن شيء إلا عن تجربة فنية، فإننا نقترب من شكل من أشكال تجربة الشيء بذاته، إذ أننا نتجاوز الإطار المحدد لتفكيرنا..)
وهذا ما يُخشى أن يغيب عن ذهن القُراء وبعض الكُتاب الذين بدأوا يألفون حصر الرواية السعودية في مضمونها الخبري والإيديولوجي، وقد يتعاملون مع رواية شارع العطايف كتوثيق لمرحلة تاريخية لفئات اجتماعية مهمَّشة، مما يُفضي لحُكمٍ متسرعٍ يُصنِّفها ضمن موجة السرديات التقريرية التي تقتات على الجرأة الخبرية في كشف المستور دون أن تدخل في فضاء الرواية الفني إلا لماما.. وعلى العكس من ذلك، فكثير من القُراء النوعيين والكُتاب أدركوا هذا الفارق بين الإبداع الذي قامت به الرواية وبين التقريرية، لذا احتفى بها أُدباء وكُتاب مهمين، أمثال: محمد العباس، عباس بيضون، بدرية البشر، داود الشريان، محمد العوين، زياد الدريس..
يتدفق النشيج الصادر من تلك الرواية نهراً جارفاً يفتت حجارة العواطف المترسبة في دهايز القلب.. لا أستطيع أن أنزع من خيالي حالة شنغافة بعد خروجه من السجن:)..صَمَتَ يتأمل في الحرية التي تجوب الشارع. الناس يتحركون بدافع من الحياة التي تجري في عروقهم. كلٌّ يذهب إلى مكان مشابه للمكان الذي يذهب إليه الآخر. لا يعرفون كيف يجدِّدون حياتهم. تحكمهم العادة حتى يصل بهم الزمن إلى الشيخوخة فيموتون دون أن يحدثوا شيئاً مهماً في هذا الكون الكبير. معظم الناس مثل الحشرات يعيشون ولا يعلمون لماذا)..
alhebib@yahoo.com