كانت السياحة في بلادنا قبل ثلاثين عاماً أو تزيدُ قليلاً مفردة غير مألوفة لدى قطاع عريض من المواطنين، ولم يكن الكثيرون منهم يشدون الرحال إلى خارج المملكة آناء الصيف وأطراف الشتاء ناهيك عن الإجازات الرسمية مثلما يفعلون الآن!
* *
* ثم هبّت رياح الطفرة الاقتصادية في منتصف السبعينيات (ميلادية) من القرن الماضي، وبدأت بعض إفرازات هذه المرحلة تبرز للأسماع والأبصار ممثلة في ظاهرة (الطيور المهاجرة) إلى خارج المملكة، وبخاصة خلال فترة الصيف، وغدت الهجرة السنوية جزءاً لا يتجزأ من (أجندة) معظم أطياف الأسر السعودية، غنيها ومتوسط الحال منها، ولم يعد إشباع هذا الهاجس مرتبطاً بالقدرة على الإنفاق، خصوصاً بعد أن أصبح السفر إلى الخارج (تقليداً) يتفاخرُ به بعض (المقلدين) ويباهون، حتى لقد قيل إن أسرة (مستورة الحال) قد يضطر عائلها إلى (الاقتراض على راتبه) كي يلبي (شغف) أسرته بالسفر إلى هذا البلد أو ذاك!
* *
* وأمام التمدُّد الكبير في ممارسات السياحة الخارجية، خصوصاً في غياب الإغراءات الجاذبة للسياحة داخل المملكة، جاء إنشاء الهيئة العامة للسياحة والآثار لتخدم غرضاً مهماً من أغراض الرفاه المعيشي والنمو الثقافي، ولتكون منظومة رسمية متكاملة العدد والعدة والعزم، تهتم باكتشاف خارطة السياحة الداخلية في المملكة، تعريفاً بها، وتنمية لها، ودعوة للاستثمار في سبيلها، عسى أن تكون (بديلاً) لمن يثقل كاهله المادي عبء السياحة الخارجية، و(خياراً) لمن يجد في هذه السياحة مراماً خاصاً يتفق مع قناعاته.
* وهكذا، تحوّل هاجس السياحة الداخلية من طيف خاص يراود أذهان هذه الشريحة أو تلك من الناس إلى (ولاية) عامة ثابتة الأسس والغايات والأساليب، توليها الدولة - رعاها الله - الاهتمام والدعم مادياً ومعنوياً سعياً إلى جعل هذا الحراك الثقافي جزءاً من (الأجندة الوطنية) لمن يُؤْثر (التغريد سياحياً) داخل حدود الوطن.
* *
* والحديث عن ما يمكن أن يكون أو لا يكون من حوافز وإغراءات وبرامج جذب ضمن منظومة السياحة الداخلية أمر يطول بحثه، وليس في هذه المداخلة مجال له، غير أنه لا شك يشكل هاجساً ذا مسارين هامين للدولة والقطاع الخاص على حد سواء، مؤكداً في الوقت نفسه أن السياحة الداخلية في أي بلد ليست خضرة وماءً ومشهداً حسناً فحسب، لكن هناك أموراً أخرى مشروعة لها نصيب مماثل من الجذب لهم السائح واهتمامه ورغباته لا أخالها تخفى على فطنة أحد وعلى رأسها السكن والنقل ومرافق الترويح البريء والمشروع معاً.
* *
* أخيراً، أودُّ التنويهَ إلى أمر مهم، وهو أن التفكير والتخطيط لإنشاء بنية سياحية داخلية ثابتة لا بد أن يستلهم تعدّدية طمُوح السائح وتنوّع أغراضه وغاياته، فهناك من يفضل سياحته شتاء، بحثاً عن الدفء.. وهناك من يفضلها صيفاً، هرباً من سعير القيظ، وهناك من يفضلها ربيعاً.. ابتهاجاً بروضه واعتدال مناخه، وحتى الخريف، رغم ما يرمز إليه من أفول، له من السياحة لدى البعض نصيب!
* *
* وهناك أمر آخر، أحسب أنه يندرج ضمن جَدَل السياحة المحلية في بلادنا، والبعض يرى فيها (بديلاً) للسياحة في الخارج.. والبعضُ الآخر يرى فيها (خياراً) لمن شاءَها لا بديلاً، والفرقُ بين الأمريْن بيِّن يتمثل في التالي:
أولهما:
* مهما قويت بنية السياحة المحلية وتعددت: مواقع وتجهيزات وعناصر جذب لها، فإن ذلك لن يثنيَ عزمَ مَنْ يرغب السياحة الخارجية أو يرجِّحُها لحيثيات وخصوصيات تتعلقُ به دون سواه، وهذه أمور يتعذرُ إخضاعُها لمعيار المواطنة أو الولاء للثقافة المحلية.
* *
ثانياً:
* أنه يتعذّر (إرغام) الناس على السياحة الداخلية (بديلاً) للسفر إلى الخارج لأسباب لا تغيب عن إدراك كلِّ ذي لب حليم، غير أننا نطمع في الوقت نفسه أن يكون سائحنا في الخارج (سفيراً) متميزاً لبلاده سلوكاً وخُلقاً، وهذه أمور يحكمُها نصابُ الفضيلة والطبْع السويّ والخلق القويم في وجدان كل من سلك ذلك السبيل!