ينظر الاقتصاديون إلى مفهوم منح الرعاية للمريض باعتباره عبئاً، وينظر إليه المختصون في علم النفس السريري باعتباره عملية تغلب على المصاعب، ويراه باحثو الخدمات الصحية من منظور التكاليف المترتبة على الرعاية الصحية، ويعتبره الأطباء مسألة كفاءة سريرية. ولكن توفير الرعاية يمثل في نظر العديد من الناس عنصراً أساسياً في تجربة أخلاقية.
ولكن بعيداً عن التمريض الذي يتطلب المهارة، وجهود إعادة التأهيل التي يبذلها المعالجون المهنيون والبدنيون، والمساعدات العملية التي يقدمها الباحثون الاجتماعيون ومعاونو الرعاية الصحية المنزلية، فإن توفير الرعاية، وخاصة لضحايا الكوارث الصحية والحالات الصحية التي لا أمل في شفائها، لا يرتبط إلا قليلاً بالممارسة العصرية لمهنة الطب.
ولتوضيح هذه النقطة أود أن أتحدث هنا عن تجربتي الشخصية باعتباري أحد القائمين على تقديم هذا النوع من الرعاية لزوجتي، التي تعاني من خلل تنكسي عصبي حاد أدى إلى إتلاف ذاكرتها ووظائفها الحركية، وتقييد استقلاليتها بطبيعة الحال. وأنا أوقظها في الصباح، وأساعدها في قضاء حاجتها والاستحمام وارتداء ملابسها، ثم أعد الإفطار لي ولها، وأساعدها في إطعام نفسها. كما أساعدها في المشي وأجلسها على مقعد وأدخلها إلى سيارتنا. وأنا لا أفارقها طيلة الوقت تقريباً لحمايتها من إيذاء نفسها، وذلك لأنها عاجزة عن الرؤية أو التنقل بأمان في الشارع أو حتى داخل منزلنا.
إنه لأمر مثير للجزع أن أراقب تدهور هذه السيدة التي كانت ذات يوم أنيقة ومفعمة بالحياة والفكر، والتي كانت رفيقة لي تتمتع بقدر عظيم من الاستقلالية طيلة أربعة عقود من الزمان. بيد أن عملنا، والإيقاع الطويل لأيامنا معاً، وفي المقام الأول دعم الأسرة والأصدقاء المقربين لنا، كلها كانت أمور ساعدت في تخفيف وتهذيب ردود أفعالنا العاطفية، من الإحباط والغضب إلى الحزن. والحقيقة أن هذه المسؤولية وما يصاحبها من هموم تشكل جزءاً من منح الرعاية، مثلها كمثل كل الممارسات العادية التي ذكرتها آنفاً، وهي ترقى إلى مستوى التضامن الأخلاقي مع كفاحنا.
وأنا إذ أعرض عليكم هذه التجربة الشخصية أضع في اعتباري أنها أفضل ما أستطيع تقديمه لتوضيح ما ينطوي عليه مفهوم منح الرعاية، ولماذا يشكل منح الرعاية أهمية حاسمة لحياة كل إنسان والحالة الإنسانية بوجه عام. إن توفير الرعاية، كما تصوره حالتنا يشتمل على ما قد يحدث حين نهجر الأمل وننبذ المواساة، وحين لا يكون بوسع المرء سوى التواجد مع الشخص المتألم، ومشاركته معاناته بمجرد التواجد معه - وبصمت في أغلب الأحوال.
غير أن المناهج في كليات الطب، سواء فيما يتصل بالعلوم الأساسية أو سنوات التدريب السريري، تخصص جل اهتمامها لفهم الطبيعة البيولوجية للمرض والعلاجات التي تعتمد على التكنولوجيا المطورة. إن تجربة المرض أصبحت تحظى بقدر متزايد الضآلة من الاهتمام مع انتقال الطالب من قاعات الدرس إلى عيادات وأجنحة المرضى الداخليين.
وفي الإطار الأوسع لنظام الرعاية الصحية، يستطيع الطالب أن يميز بسهولة أن الطب يترك إلى حد كبير المهام العملية والعاطفية المرتبطة بمسألة منح الرعاية للمرضين والممرضات، والباحثين الاجتماعيين، والمريض وشبكة الدعم الخاصة التي تحيط به. والحقيقة أن بنية تقديم هذا النوع من الخدمة وتمويل برامج الخدمات الصحية من الأسباب التي تعمل على تثبيط المختصين المهنيين وإثنائهم عن ممارسة فن تقديم الرعاية، والتي قد تؤدي في الواقع إلى تقويض الجهود التي يبذلها ممارس الطب.
والنتيجة الطبيعية لكل ذلك تتلخص في افتقار ممارسة الطب إلى الأخلاقيات. وفي نظر علماء الأنثروبولجيا الطبية فإن الناس في كل مكان يعيشون في خضم تدفق من التفاعلات الشخصية المتبادلة في عوالم محلية - الشبكات الاجتماعية، والأسر، والمؤسسات، والمجتمعات. وهذا يعني أن التجربة، إذا ما نظرنا إليها باعتبارها تدفقاً للكلمات والحركات والمشاعر فيما بيننا، ليست محلية فحسب بل إنها أخلاقية أيضا وعلى نحو متأصل، وذلك لأن خوضنا للحياة يدور حول إحياء القيم وتفعيلها.
أما في نظر المرضى والأسر التي تواجه كوارث صحية وظروفاً طبية مزمنة وخطيرة فإن تجربة المعاناة تتجاوز المستوى الشخصي، ولكنها تتأثر بشدة بالتغيرات الثقافية والتاريخية التي تطرأ على العمليات التي تساهم في تميز الحياة الأخلاقية في مختلف العصور والمجتمعات.
ولا يختلف الأطباء عن الأشخاص العاديين في الاعتماد على الموارد الشخصية والثقافية - التي تشتمل على الخيال، والمسؤولية، والشعور، والبصيرة، والقدرة على الاتصال - حين يعملون على منح الرعاية. فهم ينخرطون في مزيج من العمل الأخلاقي والجمالي والديني والعملي. أما فن الطبيب - والذي أصبح الآن مقيداً إلى حد كبير بفعل القوى البيروقراطية والسياسية والاقتصادية - فإنه يعتمد على إضفاء صبغة احترافية على الموارد الإنسانية المتأصلة والتأثيرات المترتبة على استخدامها الروتيني في إطار الحياة الأخلاقية للطبيب ذاته.
إن إعداد طلاب الطب والأطباء الشباب لممارسة مهنة منح الرعاية يتطلب بكل وضوح أموراً أخرى إلى جانب التدريب العملي والتكنولوجي. والحقيقة أن التعليم المهني الحالي قد يُنظَر إليه باعتباره وسيلة لتمكين الطبيب من العمل كخبير فني، غير أنه وسيلة أيضا لتعطيله باعتباره مانحاً للرعاية.
وللتغلب على هذا الميل يتعين علينا أن ندمج الدراسات الإنسانية في التدريب الطبي كوسيلة لإحياء وتعميق الخبرات الإنسانية المتصلة بالخيال والالتزام والتي تشكل أهمية أساسية لعملية منح الرعاية، ومقاومة إضفاء الصبغة البيروقراطية على القيم والاستجابات العاطفية والذي يؤدي إلى فشل فن الطبيب. وفي جوهر الأمر، يتعين على ممارس الطب أن يشعر بأن فن منح الرعاية لا يقل أهمية عن علوم وتقنيات التشخيص والعلاج.
وفي اعتقادي أن المطلوب يتلخص في إصلاح ثقافة الطب الحيوي المعاصرة. ويتعين علينا أن ندرب طلاب الطب وممارسي المهنة على التفكير الذاتي الانتقادي فيما يتصل بكل ما يحد من قدرتهم على منح الرعاية؛ وعلى الإستراتيجيات والتقنيات الرامية إلى فتح المجال أمام التصرفات الأخلاقية المرتبطة بمنح الرعاية؛ وعلى التصرفات الأكثر عملية ورسوخاً في تقديم المساعدة، حتى لا نسمح لهم بنسيان المعنى الحقيقي لمنح الرعاية.
أستاذ علوم الأنثروبولوجيا الطبية بجامعة هارفارد
خاص «الجزيرة»