قرأت ما كُتب حول نية (هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، تركيب (كاميرات) تلفزية، لمراقبة الناس بالأسواق العامة، بهدف ضبط المعاكسين والمعاكسات منهم بالجرم المشهود، مجحوداً كان أو غير مجحود..! ومن ثم إبراء ذمة موظفي الهيئة.
وإقامة الحجة والدليل والبرهان، على من أنكر فأنكر - أنكر الأولى: ارتكب منكراً، والثانية: جحد.
* ثم إني تابعت ما جرى من نقاشات ومثاقفات وأخذ ورد حول هذا الأمر المحدث، وما أعقب الإعلان عنه، أو أفرزه من نشر لصور الناس في مجلة (الحسبة) لأول مرة منذ ظهورها قبل خمس عشرة سنة، وكأن إباحة تصوير عموم الناس في الأسواق العامة، إجراء منقوص، حتى يُعزز بإباحة نشر الصور في مطبوعات ونشرات الهيئة، وهي التي ظلت طوال سنواتها، خلواً من كل صورة آدمية، حتى يوم الناس هذا، اليوم الذي يعرف قدر الإنسان، شخصاً وصورة، وقد كان - ربما - حتى لا يقال: يحرمون نشر الصور في مجلتهم، ويحللون تصوير الناس في أسواقهم..!
* ومثلها كذلك مجلة الدعوة، فهي الأخرى غيرت ثوبها القديم، ولبست ثوباً جديداً محلى بصور الناس التي تؤنس، وقد كنت أتابعها فيما مضى فقط، من أجل أن أدرك تسجيل اللحظة التاريخية التي ترجلت فيها عن عهدها القديم، الذي لا يعترف بصور الناس، وفاتتني هذه اللحظة الذهبية، التي تمت في عهد زميلنا الأستاذ (عبد العزيز العيسى)، الذي جاء إلى رئاسة تحرير الدعوة من رئاسة تحرير المسائية، ثم غادر مرة أخرى إلى الشورى، فشكراً له، لأن هذه لمحة تاريخية في حياتنا تحسب له.
* أقول..
* قرأت.. وتابعت.. ثم إني وقعت في ورطة، وما ذلك إلا لأني حشرت نفسي بنفسي، بين سندان قناعاتي الشخصية، وبين مطرقة أحكام الناس الجاهزة، وهي أحكام أعرفها من (بعضهم) جيداً.
* لدي قناعة كبيرة، بعدم جدوى فكرة كاميرات الهيئة، بل إني أرى استحالة نجاح الفكرة. فهذا مشروع كبير وضخم، ويحتاج إلى ميزانية ضخمة بمئات الملايين لكي يصبح واقعاً، ويحتاج بعد ذلك إلى مئات الملايين، من أجل تشغيله وصيانته، ويحتاج إلى هيئة أخرى تديره وتشغله من الفنيين المدربين على تقنية التصوير وتحليل الصور، ولهم (ألفة) مع (كاميرات التصوير)، ونحن نعرف أن موظفي الهيئات، ليس لديهم خبرة ولا دربة ولا صلة قربى بهذه الكاميرات، عوضاً عن تقنيتها المتطورة والمتجددة.
* ثم إني.. لو عاندت نفسي، وخالفت قناعاتي في أمر كاميرات الهيئة هذه، وكتبت - مثل بعض الناس، وليس كل الناس - مؤيداً ومشجعاً ومطبلاً أحياناً، فسوف أرضي بعض الناس دون شك، لكني سوف أكون مغاضباً نفسي أبد الدهر.
* ولو أني كتبت ضد الفكرة، انطلاقاً من قناعاتي تلك، فسرعان ما ينبري لي بعض الناس مثل: أبو عزيز وأبو قزيز وأبو ردينة وأبو.. وأبو.. فيسببوا ما قلت، ويعللوا ما كتبت، وأقل ما يقال عني في هذا الصدد، أني واحد من أولئك المتسكعين في الأسواق العامة، وأولئك المعاكسين في زنقاتها، لا أخرج من دكان عطار، حتى أدخل في آخر، ولا أقف أمام قماش، حتى أنتقل إلى قماش، وقد يتطوع أحدهم ليقول: بأن كاميرات الهيئة ضبطتني في سوق عام، هذا مع أنها ما زالت حبراً على ورق..! وقد يقول أحدهم: بأن خوفي من كاميرات الهيئة، هو الذي أملى علي ما قلت، ودفعني إلى ما كتبت، وحتى لا تضبطني كاميرات الهيئة، أسعى إلى وأد الفكرة قبل ولادتها..! هذا إذا لم يعد أحدهم على أنظاركم للمرة المليون، عباراته المعلبة ومنها: (.. هذا من مرضى القلوب، ومرضى الشهوات، وأصحاب السوابق، وأهل الباطل والضلالة والبدع.. وسوف تبقى الهيئة شوكة في عيون..)، فلم يبق مواطن إلا وصلته نذور وحذور الشوكة من أبي عزيز، غفر الله له، وعفا عنه.
* بعد أن قرأت وتابعت، تدبرت.. ثم أقبلت وما أدبرت، فقررت أن أكتب ما تمليه علي قناعاتي الخاصة، وليس كاميرات الهيئة التي ما زالت في المهد، فإن هي ولدت فشبت وكبرت، وبدأت في عد أنفاس الناس مع بعضهم في أسواقهم العامة، ساعتها قولوا عني ما تمليه عليكم قناعاتكم أو أحكامكم.
* هناك أسئلة ملحة في هذا الصدد، وأجوبتها تحتاج إلى تفكير مجرد من كل غرض، فليتنا - أيها السيدات والسادة - نقيس قبل الغطيس، ونسيس قبل الفطيس.. على سبيل المثال:
* ما مصير مسألة الستر في عمل الهيئة بعد تركيب كاميرات تلفزية (للصوت والصورة معاً)، تصور المحارم، وتعكس العورات، فقد كانت مسألة الستر هذه، شعاراً ترفعه الهيئة، وتنادي به على رؤوس الأشهاد..؟ هل سوف نجد هيئاوياً واحداً يقول بالستر مع كاميرا عدم الستر..؟!
* كيف نخرج هذا الفعل - تصوير الناس بدون علمهم ولا إذنهم - من دائرة التجسس، المنهي عنه في القرآن الكريم والسنة النبوية، وإذا عظم فعل التجسس في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو لم يتجاوز السمع من خارج أسوار الدار، فكيف وهو على أيدي موظفي الهيئة، سوف يكون صوتاً وصورة، بكل السكنات واللكنات، وبكل الهمسات والغمزات والهمزات..؟!
* إذا لم تكن هذه الطريقة، وصاية جبرية على مجتمع له خصوصياته، وله حقوقه الإنسانية التي يجب أن تحترم، في زمن حقوق الإنسان، فما هي الوصاية التي لم ولن يعرفها مجتمعنا بعد ذلك..؟!
* ما الذي تبقيه هذه الرقابة الدقيقة، والمتابعة اللصيقة، للأجهزة الأمنية الأخرى في الداخلية..؟! هل ينتهي دور تلك الأجهزة..؟
* إذا كان ولا بد من هكذا رقابة بهذا الشكل الشاشاتي الاستخباراتي المتلفز، فلماذا لا تدمج فروع الهيئة في المناطق والمحافظات، في الأجهزة الأمنية المعنية بالأمور الأمنية الدقيقة كهذه..؟
* كيف نستطيع أن نفسر لجوء الهيئة إلى فكرة كهذه، إذا لم تكن الثقة بين جهاز الهيئة والمجتمع مهزوزة أو معدومة، وأن استعادتها تبدو صعبة أو مستحيلة.. وهل طريقة كهذه سوف تعيد الثقة في الهيئة كما يريد موظفو الهيئة..؟
* بعد لجوء الهيئة إلى أسلوب الرقابة التلفزية السرية، والترصد الاستخباراتي غير المسبوق - إذا نفذ المشروع طبعاً - فهل بقي للهيئة ذلك الدور الذي كان يعتمد على المباشرة والتلقائية، ويتخذ نوعاً ما، أسلوب المناصحة والوعظ بالحسنى..؟
* وبعد تصوير الناس سراً من قبل كاميرات الهيئة المتلفزة، وكذلك ظهور الصور في مجلتها (الحسبة)، هل تتوقف الهيئة عن ممارساتها في طمس صور الناس من أغلفة المجلات ولوحات الإعلانات وكراتين المايكياج في الأسواق..؟
* مشروع كاميرات الهيئة، انطلق من الهيئة نفسها، وهو ما زال في دوائرها، ولأنه كبير وعام، ويتداخل مع سياسة الدولة في الحفاظ على خصوصية المجتمع السعودي المسلم، وحفظ حقوق أفراده، وتحقيق قدر معين من الانفتاح الاجتماعي والثقافي المطلوب في هذه المرحلة، فهل ينفذ وهو لم يعرض على مجلسي الشورى والوزراء، ولم يمر عبر دوائر رسمية منوط بها دراسة وإجازة مشاريع كبيرة كهذا، ويصدر بشأنه قرار سام من القيادة العليا..؟
* بعد الذي تقدم.. أجيبوني أيها الهيئاويون.. هل لديكم إجابات عما تقدم من استفسارات..؟ وحتى لو لم أحصد إلا السكوت، فإني أقول ما رأيتم وقرأتم أعلاه، انطلاقاً من قناعاتي الشخصية.. قناعاتي الشخصية.. (حتى لو ضبطتني كاميرات الهيئة)، متلبساً بهذه القناعات الشخصية..!
assahm@maktoob.com