فاجأ البيليونير الشهير ومؤسس شركة مايكروسوفت (بيل قيت) العالم قبل عدة أعوام، بالإعلان عن تبرعه بما يساوي 75 ألف مليون ريال لصالح مؤسسة (بيل وماليندا قيت الخيرية)، وهو ما مثل في حينه أضخم تبرع للأعمال الخيرية .. تبعه فيما بعد المستثمر العالمي (وارن بافيت) حيث أعلن عن أضخم تبرع في التاريخ للأعمال الخيرية، وذلك عبر تقديم ما يزيد على 110 ألف مليون ريال لصالح نفس مؤسسة (بيل ومليندا قيت الخيرية)، وكان لهذين التبرعين أصداء لا تزال تتردد في أنحاء المعمورة حتى هذا الحين.
البعض علل هذين التبرعين الضخمين وغيرها من التبرعات من غيرهم من الأثرياء ورجال الأعمال والشركات، بأنّ هذه التبرعات ستخصم من الضرائب المستحقة على ثرواتهم الضخمة.
البعض الآخر علل هذه التبرعات بالزهد في الثروة بعد أن وصل هؤلاء لقمة الثراء وبحثهم المستمر عن راحة البال والطمأنينة.
أما آخرون فعللوا هذا السلوك بالرغبة في الدعاية لشركاتهم، وتقديمها على أنها هيئات تهتم بالمجتمع مصلحة أفراده وحياتهم مستوى معيشتهم.
والحقيقة أن كل هذه التعليلات تشكِّل في مجملها جزءاً كبيراً من الحقيقة الكامنة وراء هذه التبرعات والمجهودات العظيمة التي تخدم المجتمعات، حيث يتم توجيهها لشتى المجالات النافعة كالبحث العلمي والمنشآت العامة والبنى التحتية، فضلاً عن الأعمال الإغاثية والهبات.
لكن هذه التعليلات يغيب عنها عامل يعتبر هو ربما الأهم من كل ما سبق، ألا وهو (ثقافة المجتمع) القائمة على المشاركة والتطوع لما يخدم الأهداف العامة للمجتمع واعتبارهما من أهم معايير التقييم عند اتخاذ القرار حتى لدى المواطن العادي.
لذا نجد الشركات تحرص على إخبار عملائها بأنها قدمت تبرعاً لليونيسيف مثلاً أو لمنظمة بيئية ما أو لمشروع بحثي معين، لأننا في المقابل نجد المستهلك حريصاً على التعامل مع الشركات التي تخدم المجتمع وأفراده، وتحرص على التعاطي بإيجابية مع قضاياه.
على سبيل المثال عندما قمت بزيارة موقع إحدى شركات الأطعمة السريعة المشهورة عالمياً في إسرائيل، وجدت حرصاً شديداً منهم على إبراز عدد الوظائف التي وفروها لأبناء المجتمع، وعلى مراعاة الشركة لشعائر المجتمع اليهودي بوقف العمل يوم السبت في المناطق التي ينتشر فيها اليهود المحافظون.
كذلك يعد قيام الشركة بأي عمل يتضارب مع اهتمامات أفراد المجتمع الذي تعمل فيه نوعاً من أنواع الانتحار التجاري، حيث سرعان ما يهجرها ويهجر عملها أفراد المجتمع ويقاطعونها.
لذا نجد أن أقسام وإدارات العلاقات العامة من أهم الإدارات في هذه الشركات، حيث إن أي تعاطٍ غير إيجابي مع قضايا المجتمع وأفراده من الممكن أن يؤدي لإفلاس الشركة وبسرعة فائقة.
لذا فطالما أن هذه الثقافة غير موجودة في مجتمعاتنا، فيجب أن لا نتعجب من عدم رؤيتنا لما يقارب هذا الإحساس بالمسؤولية الاجتماعية لدى معظم شركاتنا ورجال الأعمال لدينا (إلا من رحم الله)، رغم أننا كمسلمين لدينا من الدوافع ما يفوق وبمراحل كل ما سبق ذكره .. بل حتى من يفكر بتقديم خدمة مجتمعية من رجال الأعمال والشركات، فإنها لا تمثل سوى النزر اليسير مما يجب أن يقدم، عدا أن ما يقدم يتجه في الغالب للنواحي الاستهلاكية التي تعود بفائدة محدودة جداً وقلّ ما تضيف شيئاً ذا بال للمجتمع.
لذا وحتى يتجاوب رجال الأعمال والشركات لدينا مع احتياجات المجتمع، فإن الخطوة الأهم هي في تغيير سلوكياتنا الاستهلاكية والعمل على أن يدرج كل فرد منا في قاموسه مصطلح (خدمة المجتمع) ضمن عوامل اتخاذ القرار لديه قبل أن يقدم على الشراء.
على سبيل المثال إن كان هناك تاجران يقدمان سلعة متقاربة، فلا بد من إعطاء بعض الأفضلية للتاجر الذي يتعامل بحساسية ومسؤولية مع احتياجات المجتمع، حتى لو لم تكن هذه الأفضلية مطلقة.
تخيل لو أنك وأنا وكل فرد فكر قبل أن يقدم على الشراء ماذا قدم هذا التاجر أو الشركة للمجتمع؟ ما مدى مساهمة هذه الشركة في خدمة المجتمع والتزامها بالسعودة؟ ما مدى حرصها على عدم تلويث البيئة؟ ما مقدار ما قدمته هذه الشركة أو تلك للبحث العلمي والجامعات؟ مثل هذا السلوك فقط هو الذي يمكن أن يخرج لنا عبد الله قيت ومحمد بافيت.