أدخل الرئيس باراك أوباما رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بلاده والعالم الإسلامي حقبة تاريخية جديدة في خطابه أمس في جامعة القاهرة.
هذا الشاب الأسمر الفارع الطول، المفرط في الذكاء، المثقف، المتحدث ببراعة يقود أمريكا إلى الدخول في خيار الأمن والاستقرار الاقتصادي، مواصلة التقدم الحضاري الذي بدأته منذ عقود طويلة، ويكاد يتعثر بسبب السياسات المتعجلة الرعناء التي كان يتبعها سلفه جورج بوش؛ مما أحدث تراجعاً كبيراً في مسيرة أمريكا الاقتصادية، وتوتراً في علاقاتها بالعالم الإسلامي والعربي منه على الأخص.
رأيُ أوباما أن خيار الحروب أسهل من خيار الحكمة؛ ولكن خيار الحكمة يحمي من اتخاذ قرار مواجهات ومصادمات على شعوب أو ثقافات لن تؤدي إلى نتائج إيجابية، وهو هنا يريد أن يكفّر عن أخطاء سلفه الجسيمة، وأن يمحو السنوات العجاف التي عاشها العالم في ظلال الخوف والدماء وهيمنة شبح اشتعال حرب في أي مكان من العالم.
صافح الرئيس أوباما التاريخي العظيم بأسلوب الحكيم الدارس، الواعي المهذب، الذي لا ينطوي على أحكام مسبقة سيئة عن شعوبٍ أو ديانات؛ بل ساعدته نشأته واختلاط دمه وتنوعُ بيئته المسيحية والإسلامية، والإفريقية الأمريكية على فهم واستيعاب أهمية التعدد والتنوع الثقافي والحضاري والعرقي، وأن هذا الكون لم يخلق لسيادة عرق واحد، أو لون واحد، أو ثقافة واحدة؛ بل إن الحضارة القوية هي تلك المستمدة من جهود إنسانية مشتركة.
وعلى نقيض سلفه المتزمت دينياً، والمتشبث إلى حد الغلو بحماية ما يسميه (النمط) الأمريكي بدا أوباما متسامحاً محباً وطيباً وشاعرياً في سعيه إلى صداقات وكسب محبة الشعوب الأخرى، والدفاع عن الإنسان المضطهد، ومنحه الحق في الحياة بكرامة؛ فدافع وأعلن وقفة أمريكا بدوافع القيم والمثل الأمريكية -كما قال- مع من يطالبون بحقوقهم الإنسانية وفرصهم في التعبير عن رؤاهم وأفكارهم بالطرق السلمية، وتمكينهم من الوصول إلى إعلان مواقفهم من المظاهر السلبية في بلدانهم؛ كما رفض تكرار مأساة البوسنة وشجب صمت العالم عنها، وطالب بإنصاف المرأة ومنحها حقها في التعليم، والمشاركة بسواسية مع الرجل في المجتمع. كما أكد على قلقه من الانعكاسات السلبية للحداثة على قيم وأخلاق الأسرة، وأن آفاق الحداثة وابتكاراتها العلمية لا بد أن تسير موازية لخدمة الأمن الأخلاقي، وحماية مفهوم العائلة، والشعور بمسؤولية حماية الأجيال من انهيار القيم عن طريق التدمير بالجنس أو غيره.
لقد حدد الرئيس أوباما قضية أمريكا مع العالم العربي والإسلامي في نقطتين ضمن سبع نقاط عامة؛
القضية الأولى الإرهاب والتطرف، وهنا نجح وباقتدار في وضع فكر (القاعدة) في زاوية ضيقة صغيرة؛ إذ حاصرها بجملة تساؤلات عن مسوغات أعمالها الإرهابية على مستوى العالم، وما جريرة ثلاثين ألفاً قتلوا في هجمات 11 من سبتمبر؟ وما الذي ترمي إليه بعد كل ذلك؟ وهل تطمح إلى قطيعة مطلقة بين العالمين الإسلامي والغربي؟! إن هذا لن يتحقق على الإطلاق؛ بحكم الروابط والصلات والمنطلقات الإنسانية والحضارية؛ ولن تستطيع مجموعة محدودة شريرة من الناس إيقاف الاتصال والتواصل الحضاري بين ثقافتين كبيرتين راسختين؛ هما الثقافة الإسلامية، والثقافة الغربية، ولذا شدَّد على أن الحرب على (القاعدة) وفكرها الإرهابي ستكون من أولويات أمريكا؛ وأولويات كل منصف وعادل ومحب للإسلام؛ وقد عانى منها المسلمون قبل الغربيين؛ ولذا فهي خطر يهدد السلام الدولي، والتقدم الحضاري في العالم.
كما أشار إلى مبادرة الملك عبدالله في حوار الديانات، ورأى أنها خطوة متقدمة جداً في سبيل التقارب العقدي والإنساني.
الرئيس أوباما -وعلى نقيض سلفه- أظهر قدراً كبيراً من استيعاب قيم الدين الإسلامي؛ فتمثل بمعاني آيات كريمة من القرآن؛ مثل الدعوة إلى إحياء الأرض بالحفاظ على النفس البشرية (من قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) وعبر عن وعيه بسمو قيم الإسلام منطلقاً من أجوائه الأسرية الإسلامية والمسيحية على السواء.
والحق ونحن في سياق الحديث عن السنوات العجاف الصعبة التي خاضها العالم بعد 11 سبتمبر المشؤوم وعاشتها المملكة على الأخص، لا بد أن نعرج على الحكمة التي قاد بها الملك عبد الله بلادنا للخروج بسلام من مخاطر تلك المرحلة الصعبة، فخرجنا بأقل الخسائر، على الرغم من صلف وحماقة وتزمت وجهالة الرئيس السابق بوش، ولولا أن قيادتنا ساقت الأمور في طريق المعالجة الذاتية لبؤر التطرف في بلادنا بطريقة اجتثاثية فنية شجاعة ودقيقة ثم بطريقة علاجية تنويرية واعية وواثقة من جانب آخر، لكنا دخلنا في مقابلة الحماقة بما يماثلها فتكون النتائج كارثية على الجميع. إن مرحلة الرئيس أوباما تفتح الآفاق واسعة للخروج من تلك البؤر الساخنة المتوترة، وللانعتاق من مرحلة التربص والتصيد والانغلاق على الذات، والحكم المسبق على الإسلام والمسلمين والعرب بسوء النية تجاه العالم، وتجاه الحضارات الأخرى إلى مرحلة جديدة قائمة على العلاقات المتوازنة، وعلى احترام الآخر المختلف وعلى تقدير دور كل حضارة في التاريخ الإنساني.
والقضية الثانية: قضية فلسطين وهي من المشاجب التي يعلق عليها التطرف والفكر القاعدي خطاباته ويجعلها منطلقاً لخلق الصدام وإشعال فتيل الحروب وهنا كان أوباما متوازناً ومطالباً بإنصاف الفلسطينيين بمنحهم حقهم في دولة مستقلة ووقف بناء المستوطنات لئلا تتوسع إسرائيل على حساب الأرض الفلسطينية.
وربما تكون مشكلة فلسطين المزمنة هي القضية الرئيسة الوحيدة في ملف أوباما في سنوات حكمه القادمة، إذ سيغلق ملف العراق قريباً وسيتبعه في الإغلاق ملف أفغانستان، وتبقى العلاقة مع إيران في منطقة الحوار لا الصدام كما صرح أوباما. إذن فلا قضية كبرى لدى الإدارة الأمريكية الجديدة سوى (فلسطين)، وربما ينجح في التهدئة في أسوأ الأحوال محل التصعيد الذي كان سلفه يمنح إسرائيل التأييد المطلق لسحق الفلسطينيين إلى آخر ساعات عمله في البيت الأبيض ونحن على علم أن مأساة غزة كانت ختاماً سيئاً ودموياً وقذراً لأيامه الأخيرة السوداء!.
ويضع خطاب الرئيس (مبارك بن حسين أبو عمامة) العالم كله في مستوى حضاري رفيع من التعاطي مع (الاختلاف) والحوار مع (التضاد) بمنهج لسياسة جديدة تصطبغ برؤية فكرية مثالية أخلاقية، أكبر من اصطباغها بأبعاد براغماتية دعائية لتحقيق مكاسب آنية. إنه يقول بصراحة لا يمكن أن ينعم العالم بالصحة والإنفلونزا تفتك بالإنسان في أقصى القارة لأن الخطر سيهدد العالم وكذلك الفقر والإرهاب وانتهاك حقوق الإنسان، فرسالة هذا الرجل (الفلتة) رسالة حضارية إنسانية ودوره في تاريخ أمريكا سيكون من الأدوار الخالدة، ولن يكون وفق هذا المنطق عدداً جديداً مكملاً للأرقام الرئاسية المكررة والعادية التي مرت على البيت الأبيض. هذا الرجل الأسمر في البيت الأبيض، جورج واشنطن جديد وابراهام لنكولن جديد هذا ثالث ثلاثة كبار في التاريخ الأمريكي.
والأجمل والأكثر إشراقاً في تدفق هذا الفكر الأمريكي الجديد أنه يأتي مطهراً ومكفراً ومستعلياً على وضاعة خطابات صغيرة حمقاء تقسم العالم إلى معسكرين ضدين، وتؤمن بنظرية تفوق النمط، وحتمية استعلاء الأبيض، وفرضية اختيار الإله لحتمية الانتقام والحرب، كما كان يتتعتع سلفه!
والأجمل أيضاً في إطلالة هذا الرجل العبقري أنه اجتمعت فيه قدرات عدة - يسرها الخالق - لرد حتمية التفوق العرقي، ولمنح الأعراق الأخرى في العالم، والثقافات المتعددة فرصة إثبات الذات، وإن أمريكا بانتخابها رجلاً مثل أوباماً - إذا واصلت احتفاءها به - تثبت للعالم المعنى الحقيقي للديمقراطية، والمعنى السامي النبيل للمثل والقيم الإنسانية الأمريكية، باعتبار أن أمريكا ليست عرقاًَ واحداً، ولا هي من محتد واحد؛ بل تجمعٌ متعددٌ من بيئات مختلفة ومن ثقافات متعددة صنعت المعجزة الأمريكية!
والأجمل أيضاً أن الرجل يمت لنا بصلة من قريب أو من بعيد، فهو بهذه المعاني الأخلاقية الكبيرة المتمثلة في الدعوة إلى سلام عالمي، وتواصل حضاري إنساني، ومنح الطفل والمرأة والمضطهدين كل الحقوق، والإيمان بضرورة حماية المنجز الإنساني من وحشية الفكر الأحادي، ودموية أعداء التحضر، وسوى ذلك من الأفكار الارتجالية النيرة التي تدفق بها وجدان قائد العالم، إنما يمنح المسلمين صورة جديدة زاهية؛ كونه ينطلق في بعض أفكاره من هذه المرجعية الفكرية، بدليل استشهاده بين وقت وآخر بآيات قرآنية كريمة، دون أن يغفل عن الاستشهاد بمثلها أو ما يقارب معانيها من الإنجيل.
وخلاصة هذه الوقفة مع خطاب أوباما التاريخي: ماذا يمكن أن يحدث كرد فعل لهذا الخطاب الذي يقدم ولأول مرة في التاريخ الأمريكي مفهوماً جديداً للعالم وللقضايا الساخنة ومنها قضايا العالم العربي والإسلامي؟! هل ستصمت الدوائر الصهيونية العالمية، وهي قريبة من مكتبه في البيت الأبيض؟ هل سيقبِّل رأسه المسيحيون المتصهينون؟ هل سيصفق له الإعلام المأجور المدفوع المشترى من متطرفي أمريكا، وهم جوقة سلفه؟!
وماذا ينتظر زعيماً كبيراً يحمل رسالة كبيرة كهذا الرجل في عتمة مرحلة مضطربة من صراع المصالح واستقطاب النفوذ وكابوس أزمة اقتصادية طاحنة؟ هل سيواصل حمل هذه الرسالة السامية ليعم السلام العالم؟ وهل ستخلو إشاراته المحبة للعالم الإسلامي وللمملكة وللملك عبدالله واستيعابه للتراث الإسلامي ولقيم الدين الإسلامي من عدم استهجان أو استنكار أو ربما رفض من متطرفي الصهيونية أو غلاة المسيحية؟!
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام كلية اللغة العربية
Ksa-7007@hotmail.com