طالب الشيخ سلمان العودة بالفصل بين المتطرفين وبين الإسلام، حيث رأى (أن المتطرفين يقدمون أنفسهم على أنهم هم الأمة).. جاء ذلك في برنامج إضاءات في القناة العربية.. وكل من كتب ينتقد الفكر المتشدد فإنه سيلحظ بوضوح ما ذكره الشيخ العودة، فالمتشدد يعتبر نفسه دون غيره وصياً على الإسلام. الإسلام مدارس وتوجهات ومذاهب، من يختزل الإسلام في رؤيته، ويلغي بالتالي أي رأي آخر يختلف معه، هو عملياً يرفع شعار: (أنا الإسلام والإسلام أنا)، ولا يمكن أن تلغي التطرف عملياً إلا إذا حاربت كل من يحتكر الإسلام في رؤيته، ويلغي الرؤى المخالفة لما يقول.
ولأننا هذه الأيام نتلمَّس آليات (الأمن الفكري)، فلا يمكن -ابتداء- أن يتحقق هذا الأمن، إلا إذا كرَّسنا (التعددية)، وتعاملنا مع كل الأطياف الموجودة على الساحة دون إقصاء.. أن تقصي طيفاً فكرياً معيناً، وتتعامل مع طيف واحد، أو جزء من طيف، فأنت في النتيجة تنتصر لطيف على حساب أطياف أخرى، لتعود إلى نقطة الصفر من جديد، وتعطي الضوء الأخضر لطيف واحد دون غيره لأن (يحتكر) تفسير الإسلام.
هناك (مسلَّمة) لا يرفضها في بلادنا إلا القلة القليلة التي لا وزن لها، مؤداها أن هذه الدولة قامت على نصرة العقيدة، وتحكيم الشريعة الإسلامية، وستبقى كذلك ما بقيت.. هذه المسلَّمة لا خلاف عليها في تقديري بين الأكثرية الساحقة من السعوديين.. غير أن الخلاف يتمحور حول التفاصيل.. هذه التفاصيل تتحول إلى خلافات جوهرية عند تعاملنا مع التراث الفقهي الموروث الممتد لأكثر من ألف وأربعمائة عام، والذي من خلاله نستمد القوانين والأنظمة في دولة الشريعة.. ومثل هذه الاختلافات يجب أن نتعامل معها على اعتبار أنها سبب من أسباب ثراء الشريعة.
فدولة الشريعة (دولة مدنية)، يتساوى مواطنوها في الحقوق والواجبات، تُحكِّم الشريعة من خلال أنظمة وقوانين تستمد من الإسلام (حصراً) مرجعيتها، وهذه الأنظمة تعمل من خلال مؤسسات رسمية وأهلية داخل كيان قانوني، يتشكَّل من الشعب -حكاماً ومحكومين-.. ومن هذه المؤسسات، وهذه القوانين التي تنظم علاقتهم ببعضهم، وعلاقتهم بالسلطة الحاكمة، وهو ما تم الاصطلاح عليه حديثاً تحت مسمى (الدولة - الوطن).. هذه المرجعية التي يفترض أن تستقي منها دولة الشريعة قوانينها، كلما ضاقت، ضاق في النتيجة الخيارات المطروحة للتشريع، وكلما اتسعت اتسع المعين الذي من خلاله تستمد دولة الشريعة أنظمتها وقوانينها.
بمعنى أن التعددية، وتكريسها، ستنعكس إيجابياً على توسيع مرجعية دولة الشريعة.. وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى أن قرار خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله- الذي قضى بتوسيع هيئة كبار العلماء في المملكة، بحيث شملت أكثر من مذهب، هو في التحليل الأخير يصب في إثراء مرجعية دولة الشريعة (الفقهية).
كل ما أريد أن أقوله في هذه العجالة إن التعددية بأشكالها المختلفة، وعدم إقصاء الآخر المخالف هما الدواء (العملي) لتهميش التشدد، وبالتالي اجتثاث الإرهاب من مجتمعنا لتحقيق (الأمن الفكري)، وفي الوقت نفسه هي المعين الخصب الذي من شأنه إثراء مرجعية دولة الشريعة.. إلى اللقاء.