|
سأتحدث فيما يأتي في عرض متراوح بين البسط والإيجاز عن بعض المؤلفات النحوية المتميزة في العصور المتعاقبة من حيث نظام كلّ منها واتجاهه وطريقته ومنهجه في التأليف وإلى حدّ ما مادته العلمية مع الإشارة السريعة إلى بعض محتوياته عند قيام المقتضِي.
|
بدأ البصريون التأليف النحوي، ثم استمر التأليف في هذا العلم يتدرج في أشكال مختلفة وأساليب متنوعة، ولو كانت جميع المصنفات النحوية بين أيدينا لاستطعنا أن نعرف تدرج التأليف في النحو على وجه دقيق، ولكن كثيراً منها ضاع في وقت مبكر مثل كتابي (الجامع) و(الإكمال) لعيسى بن عمر المتوفى 149هـ، وهما أول المؤلفات في هذا العلم، ويعدّ كتاب سيبويه أول كتاب شامل في النحو من كتب المتقدمين وصل إلينا، وظهر بعده كثير من المؤلفات النحوية والصرفية واللغوية الكبيرة والصغيرة وكذلك الرسائل المختصرة مثل: رسالة الكسائي المتوفى 189هـ، في لحن العامة، وكتاب (المذكر والمؤنث) للفراء المتوفى 207هـ، وكتاب (إصلاح المنطق) لابن السكيت المتوفى 243هـ، وكتاب (المقتضب) للمبرد المتوفى 285هـ، وكتاب (الشواذ) لثعلب المتوفى 291هـ، وكتاب (الأصول) لابن السراج المتوفى 316هـ، وكتاب (المقصور والممدود) لابن ولاّد المتوفى 332هـ وكتابي (التكملة) و(الإيضاح) لأبي علي الفارسي المتوفى 377هـ، و(إعراب ثلاثين سورة) لابن خالويه المتوفى 390هـ، وكتاب (ملحة الإعراب) للحريري المتوفى 516هـ.
|
وهناك مصنفات جاءت البحوث النحوية والصرفية في ثناياها أو في فصولها مثل: كتاب (الكامل) للمبّرد، وكتاب (الأمالي) للزجاجي المتوفى 337هـ، وكتابي (الخصائص) و(سرّ الصناعة) لابن جني المتوفى 392هـ.
|
ثم يأتي النحويون والصرفيون المحدثون ابتداء من الزمخشري المتوفى 538هـ صاحب كتاب (المفصّل)، ثم ابن الحاجب المتوفى 646هـ وله (الكافية) في النحو و(الشافية) في الصرف، ثم تجيء الألفيات نحو: ألفية ابن معطٍ المتوفى 628هـ، وألفية ابن مالك المتوفى 672هـ، ثم تجيء كتب نحوية وصرفية أخرى مهمة مثل: كتب ابن هشام الأنصاري المتوفى 761هـ، وكتب جلال الدين السيوطي المتوفى 911هـ.
|
|
يعدّ هذا الكتاب أول وأشهر ما بين أيدينا من المؤلفات النحوية، وقد دفع سيبويه إلى تصنيفه محاولة المؤلف وقف تيار اللحن الذي أخذ يتفشى والذي خيف منه على القرآن وتراث العرب من النثر والنظم، وأصبح الكتاب منذ تصنيفه دعامة علم النحو، وظل حقبة طويلة مرجع النحاة وقبلة الدارسين ومحور البحث والشرح، وصارت دراسته دليل البراعة وميزان التحصيل، ولم يكن يحسب العالم عالماً في النحو إلا إذا درس كتاب سيبويه كله، قال أبو علي الفارسي: (جئت إلى أبي بكر السراج في بغداد لأسمع منه الكتاب، فلما انتصف عَسُر عليّ في تمامه فانقطعتُ عنه وقلت لنفسي بعد مدة: إن سرت إلى فارس وسُئلت عن تمامه فإن قلتُ نعم كذبت وإن قلتُ لا سَقَطَت الرواية والرحلة).
|
وقد أصبحت كلمة (الكتاب) علماً على كتاب سيبويه بالغلبة عند النحويين، وكان المبّرد إذا أراد مريد أن يقرأ عليه كتاب سيبويه يقول له: هل ركبت البحر؟ تعظيماً له واستصعاباً لما فيه، قال الزمخشري:
|
ألا صَلَّى الإله صلاةَ صِدْقٍ |
على عمرو بن عثمان بن قَنْبَر |
فإنَّ كتابه لم يُغْنِ عنه |
بنو قَلَم ولا أبناء مِنْبرَ |
وقد عظم شأن الكتاب فكانت له المكانة العليا في عصره وفي العصور التي تلته حتى اليوم، قال الجاحظ: (أردتُ الخروج إلى محمد بن عبدالملك الزيات وزير المعتصم ففكرت في شيء أهديه له فلم أجد شيئاً أشرف من كتاب سيبويه، فلما وصلت إليه قلت له: لم أجد شيئاً أهديه إليك مثل هذا الكتاب وقد اشتريته من ميراث الفرّاء، فقال له: والله ما أهديت إليَّ شيئاً أحب إليَّ منه)، ووصف صاعد الأندلسي كتاب سيبويه بقوله: (لا أعرف كتاباً أُلّف في النحو فاشتمل على جميع ذلك العلم وأحاط بأجزاء ذلك الفن غير كتاب سيبويه البصري النحوي فإنه لم يشذّ عنه من أصول فنّه شيء إلا ما لا خَطَر له)، وترجم المستشرق الفرنسي (دي ساسي) في كتابه (التحفة السنية في علم العربية) بعض فصول كتاب سيبويه إلى الفرنسية، ونشر المستشرق الفرنسي (دِرَنبور) كتاب سيبويه بالعربية في مجلدين كبيرين في ألف صفحة مع ترجمته إلى الفرنسية، ونقل المستشرق الألماني (ياهن) الكتاب إلى الألمانية وطبعه في برلين، وهذا كله يدل على أن سيبويه وكتابه قد شغلا الناس من مختلف الأجناس في كثير من الأزمان والبقاع.
|
وتاريخ تأليف (الكتاب) مجهول، وذكر المؤرخون أنه ظهر بعد وفاة سيبويه بقليل، وأن الذي نقله عنه ورواه للناس تلميذه الأخفش الأوسط المتوفى 215هـ، وقد دهش الناس عند ظهور الكتاب فجأة على صورته الرائعة من سيبويه الشاب وشكّوا لأول وهلة في أمانته العلمية إلى أن شهد أستاذه يونس بن حبيب الذي توفي بعد عامين من وفاة تلميذه سيبويه بأنه قد صدق فيما رواه عنه، وكذلك في جميع ما ذكره في كتابه، وبهذا انعقد الإجماع على أن الكتاب لسيبويه، ولم يضع سيبويه لكتابه اسماً محدداً يميزه عن سائر الكتب كما اعتاد غيره من المصنفين في مختلف العلوم أن يفعلوا واكتفى باسم (الكتاب) مما يعني أنه كان عند الجميع أكبر من أن يوضع له اسم معين، وأشمل من أن تُحدّ لموضوعاته الحدود، ويقال إنه لم يسمه؛ لأنه لم يتمكن قبل وفاته من وضعه في ثوبه النهائي.
|
وقد جمع سيبويه في كتابه العظيم ما تفرق من أقوال أساتذته في النحو كالأخفش الأكبر وعيسى بن عمر وأبي عمرو بن العلاء، وكالخليل بن أحمد الذي أنابه في رواية الفنّ عنه في كتابه الذي أصبح سجلاً لآراء الخليل الكثيرة، وكان سيبويه كثيراً ما يقول في الكتاب (سألت الخليل)، وإذا أضمر وقال (سألته) أو (حدّثني) أو (قال لي) فإنه يعني الخليل، وذلك مستفيض في الكتاب، ومن أساتذة سيبويه الذين أكثر النقل عنهم في كتابه يونس بن حبيب؛ لأنه كان يطمئن إليه ويثق فيه فقد نقل عنه بابين في التصغير، وكثيراً ما كان يسأله للتثبت مما سمعه من غيره، ومنهم أيضاً أبو زيد الأنصاري الذي كان سيبويه يقصده حين يقول: (حدثني من أثق بعربيته)، ولم يلبث سيبويه أن أصبح أعلم المتقدمين والمتأخرين بالنحو، ولم يوضع فيه مثل كتابه الضخم الجامع لأصوله، ذكره الجاحظ فقال: (لم يكتب الناس في النحو كتاباً مثله وجميع كتب الناس عيال عليه)، لذلك أصبح كتاب سيبويه عمدة النحاة بعده فعكفوا على قراءته، وكان يقال في البصرة قرأ فلان الكتاب فيعلم أنه كتاب سيبويه، ولا شك في أن أساتذته الكبار الذين ذكرناهم قد أثَّروا في تكوينه الفكري وأَثْروا معارفه المتنوعة، هذا بالإضافة إلى استعداده الفطري وذكائه المتوقد وتحصيله الواسع مما جعل كتابه مناراً يُهتدى به في علم النحو خاصة، ومصدراً يُرْجَع إليه في معرفة خصائص العربية على وجه العموم، ويكفي سيبويه فخراً أنه لم يكن جمّاعاً لآراء السابقين فحسب، بل كانت له أيضاً شخصية قوية ظهرت في موازناته بين آراء العلماء في المسائل النحوية ثم في الحكم بينها بالترجيح، كما ظهرت في إبداعه بعض قواعد النحو اعتماداً على سماعه من العرب الخلّص، وفي ترتيب الكتاب وجعله حاوياً عناصر الفنّ كلّها، وفي تبويبه واضعاً كل شيء وما يتصل به معه، ولم يَعِبْه في ذلك أنهما تبويب وترتيب على غير المألوف في عصرنا، كذلك ظهرت شخصية سيبويه العلمية القوية في حسن تعليله للقواعد وجودة ترجيحه عند الاختلاف وفي استنباطه الفروع من القياس الذي امتلأ به الكتاب وفي حرصه على الشواهد الوثيقة لدعم الأحكام النحوية التي يقرّرها وتثبيتها.
|
وقد عقد سيبويه في كتابه أبواباً قليلة مستقلة للصرف فرّقها بين أبواب النحو كما أورد مسائل صرفية بعثرها في الكتاب على اعتبار أن الصرف عنده يكاد يدخل في مدلول النحو. وقد تتلمذ على سيبويه مباشرة وقرأ كتابه عليه سماعاً عدد من مشاهير النحاة كالأخفش الأوسط وقطرب، وقرأ الكتاب على تلاميذ سيبويه كثيرون منهم المازني الذي قرأه على الأخفش الأوسط، وقال عنه: (من أراد أن يعمل كتاباً كبيراً في النحو بعد كتاب سيبويه فليَسْتح)، ومنهم الجرمي الذي درسه على الأخفش الأوسط أيضاً، وكذلك الفراء الذي وجدوا الكتاب تحت رأسه حين توفي.
|
وطوّف كتاب سيبويه في البلدان، فانتقل من البصرة إلى الكوفة ثم إلى بغداد فالشام فمصر فالأندلس، ولقي من علماء هذه الأقطار حفاوة بالغة واستفرغ عنايتهم فاهتموا بدراسته وأكثروا من شرحه والتعليق عليه وتفسير شواهده مثل المبرد والأخفش الأصغر وابن السراج والسيرافي وأبي عليّ الفارسي والرماني وأبي العلاء المعري المتوفى 449هـ والزمخشري والعكبري وابن الحاجب في المشرق، أما نحاة المدرسة الأندلسية فيعد حمدون النحوي القيرواني المتوفى بعد المائتين أقدم من حفظ كتاب سيبويه، كما يعدّ الشنتريني (المنسوب إلى شنترين بالقرب من لشبونة عاصمة البرتغال حالياً)، والخشني وابن الطراوة وابن خروف وابن الباذش وابن الضائع أشهر من قاموا من علماء هذه المدرسة بحفظ الكتاب وتدريسه وشرحه والتعليق عليه، وفي كثرة اشتغال الأندلسيين به أبلغ دليل على ما لاقاه كتاب سيبويه في بلادهم من الإجلال حتى أنهم كانوا يسألون النحوي عندهم فإن كان قرأه عظموه وإلا عدّوه جاهلاً، وكانوا يتنافسون في حفظه عن ظهر قلب، وقام بعضهم باختصاره للطلبة المبتدئين على نحو ما فعله أبو حيّان مثلاً في القرن الثامن الهجري، وهذا كله يدل على أثر كتاب سيبويه العميق في الدراسات النحوية التي ظهرت بعده في كل الحواضر الإسلامية فقد اعتمدت عليه واستلهمت منه محتوياتها، وسماه أصحابها (قرآن النحو).
|
أ.د. عبدالكريم محمد الأسعد |
أستاذ سابق في الجامعة |
|