Al Jazirah NewsPaper Thursday  28/05/2009 G Issue 13391
الخميس 04 جمادىالآخرة 1430   العدد  13391

مؤلم رحيلك أبي
أسماء بنت عبدالله آل معدي

 

حين أشحذ همة حرفي أراه يبكي في صمت من أجلك يا أبي فكم هو مؤلم رحيلك وكم هو مؤلم فقدك، عندما مات أبي رأيت الابتسامة تموت في فؤادي ورأيت مشاعري تذبل في أوج ربيعها ورأيت عيني تذرف الدمع الغزير، نعم لقد مات صاحب القلب الكبير فحررت هذه الأسطر مع أن أبي عبدالله بن راشد بن عبدالله آل معدي يستحق أكثر منها فهو أبي ومعلمي الذي دفن في مقبرة البليعية بمركز الحلوة بحوطة بني تميم، فبكيت عليه كما لم أبكِ على أحد من العالمين، لقد كنت أبكي بصمت طوال خمسة أشهر وأنا أرى أبي يتألم من شدة المرض المفاجئ الذي لازمه تلك المدة الطويلة إلى أن جاء يوم الجمعة الموافق 30-3-1427هـ وكانت الساعة تشير إلى الثامنة والثلث صباحاً عندما فاضت روح أبي حينها انفجرت الدموع من عيني فملأت وجهي وقلبي وخرجت من كل ذرة من ذرات جسدي، والآن وبعد هذه السنوات الثلاث التي انقضت على وفاة أبي فلا أزال أجد أن صورته لم تفارق مخيلتي، فهي ملازمة لي عند نومي وفي يقظتي وعند أكلي وعند شربي وفي كل لحظات حياتي عندما أرى أمي أتذكر أبي وكذلك عندما أرى أحد أشقائي أتذكره بل وأتذكره عندما أدخل كل غرفة من غرف منزلنا وأشعر أنه موجود بيننا فرائحة أنفاسه الطيبة تملأ المكان وصورته مرسومة بل هي مطبوعة في كل زاوية.. لكم أشتاق لك أبي ولكم أحبك يا أبي، لقد اكتشفت أن الحياة بلا طعم بدونك فأنت كنت ملح الحياة ولذتها. لقد شعرت عندما مات أبي أن الحزن خيّم علينا بل وألقى بظلاله الكئيبة على بيتنا الذي كانت تملؤه السعادة والحبور بوجوده بيننا، بل وشعرت أن طيور الحنان الأبوي رحلت بلا عودة مع رحيل أبي ولم يبق سوى الحزن نتجرعه ليلاً ونهاراً، فالحمد لله ولا اعتراض على قضائه وقدره.. في لحظة صدق مع نفسي أدركت عندما مات أبي أن الحياة الدنيا صارت في قرارة نفسي أوهن من بيت العنكبوت بل هي في الحقيقة أوهن من ذلك بكثير، فالحياة نراها من بعيد قوية ومتماسكة ولكن عندما نقترب منها ونعيشها بتفاصيلها نجدها خيوطاً بالغة الدقة يفتك بها الموت في لحظة دون رحمة أو شفقة كقول الشاعر:

وبيت العنكبوت إذا رحلنا

يُعادل بالخورنق والسدير

ما يهوّن من مصيبة الموت هو عزاء الناس وزيارتهم، وأبي عندما رحل عن الدنيا وزارنا الناس وامتلأ بيتنا على كبره بهم وكان الجميع يثنون على أبي ويدعون له بالرحمة والمغفرة، كانوا يذكرون محاسنه وصنيع أفعاله فاستبشرنا خيراً خاصة عندما تردد على مسامعنا ما رواه أبو الأسود رضي الله عنه من أنه قدم المدينة المنورة وقد وقع بها مرض، يقول فجلست إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فمرت بنا جنازة فأثنى -أي الجالسين- على صاحبها خيراً فقال عمر وجبت ثم مُر بأخرى فأثنى على صاحبها شراً فقال وجبت فقلت أي أبو الأسود ما وجبت يا أمير المؤمنين؟! قال قلت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة يقول عمر فقلنا وثلاثة فقال وثلاثة فقلنا يا رسول الله واثنان فقال واثنان ثم لم نسأله عن الواحد) رواه البخاري.. يقول الحافظ ابن حجر في تفسيره ويدل هذا الحديث على أن من مات من المسلمين فألهم الله تعالى الناس الثناء عليه بخير كان ذلك دليلاً على انه من أهل الجنة.

ووالدي رحمه الله عرفه الناس صالحاً عابداً وذا أخلاق فاضلة وكان سليم الصدر، فقلبه لا يحمل حقداً أو حسداً على أحد كان يبر ويحسن لمن أساء إليه وكان يحلم على من جهل عليه وكان يعطي من منعه ويصل من قطعه، وكانت حياته منذ عرفته صلاة وصياماً، فنهاره صائم وليله قائم ولم يكن ينام من الليل إلا قليلاً كان التسبيح والتهليل والدعاء لا يفارق لسانه أبداً فقد كان لسانه رطباً بذكر الله حتى في أشد ساعات انشغاله.. هكذا عرفته وهكذا عرفه القريبون منه، كان لا يتوانى في خدمة من عرف ومن لم يعرف كما لا أذكر أنه رفع صوته على أحد، ومما لا أزال أتذكره أنه عندما كان أبي يخرج من مدرسته ويرى بعض طلابه يسيرون على أقدامهم كان يتوقف ويقلهم في سيارته ويوصل كل واحد منهم إلى منزله ولم يكن يبالي أن تسبب ذلك في تأخره عن المنزل، فقد كان عطوفاً على الجميع ولم يكن متكبراً أبداً كان لا يتورع أمامنا في الدعاء لنا بالصلاح والسعادة حتى في آخر أيام حياته، فقد كان قريباً منا بمشاعره وعاطفته الجياشة التي لم تكن تمنعه عن إظهار محبته وقربه منا نحن أولاده ولم يكن يشعرنا بأن هناك فرقاً بيننا فكلنا أولاده وكلنا أحبابه فالبنت كالولد والصغير كالكبير فقلبه الكبير يسع للجميع.

أبي لمن لا يعرفه تلقى تعليمه بمدرسة الحلوة ثم معهد المعلمين بحوطة بني تميم ثم عمل معلماً في مدرسة الحلوة الثانية عام 1385هـ ثم أكمل دراسته في مركز الدراسات التكميلية بالرياض عام 1389هـ ثم الكلية المتوسطة بالرياض وعين بعد ذلك عام 1392هـ في مدرسة الحوطة الأولى ثم صار وكيلاً لمدرسة مصدة الابتدائية والمتوسطة عام 1406هـ ثم وكيلاً لمدرسة العزيزية عام 1409هـ وفي عام 1417هـ استقر به المقام وكيلاً لمدرسة القلعة بالحلوة واستمر وكيلاً إلى أن توفي عليه رحمة الله.

عندما يفقد الإنسان شخصاً عزيزاً إلى النفس وقريباً إلى القلب فإنه يشعر بكمد وحزن ونار في صدره لا يطفئها سوى الإيمان بالله والتسليم بقضائه وقدره ولا يطفئها كذلك سوى رؤية علامات حسن الخاتمة على ميته وحبيبه.. ووالدي كانت أيام حياته الأخيرة كلها ذكر وثناء على الله سبحانه وتعالى وآخر مرة عندما زرت أبي في مرضه الذي توفي منه وفيما كنا نتحدث رفع الأذان فأمر إخوتي على الفور بالذهاب للصلاة بالمسجد ثم طلب مني ومن أمي مساعدته على الوضوء وكانت تلك آخر مرة تلمس يدي يد أبي غفر الله له وهذا ليس بالأمر الجديد عليه فهو عندما كان في كامل صحته وعافيته كان يتوجه إلى المسجد منذ أن يسمع النداء فقد كان قلبه معلق بالمساجد وكان ينتظر الصلاة إلى الصلاة كما أن القرآن الكريم كان هو رفيقه في خلواته، ولازلت أتذكر بحسرة وشوق صوته الشجي وهو يتلو القرآن الكريم في البيت كل يوم بعد صلاة العصر في شهر رمضان المبارك وطوال أيام السنة.. والله ثم والله لكم افتقدت ذلك الصوت الندي الذي كان يملأ البيت إيماناً وسكينة وانشراحاً قال الشاعر:

ليبكيك كل ليل قمت فيه

إلى أن يبدو الفجر المنير

وليسمح لي القراء أن أوجه رسالة أخيرة لأبي وهو تحت الثرى أبي لقد حزنت كثيراً وبكيت بحرقة عند وفاتك ولكن ما أدخل السرور إلى نفسي أن وفاتك كانت صباح يوم الجمعة ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله تعالى فتنة القبر)، فاللهم قِ والدي فتنة القبر وعذابه. والدي لقد رآك عمي في منامه بعد وفاتك بأيام وكنت مشرق الوجه وتقول أنا في نور أنا في نور، فاللهم اجعل قبرك نوراً كما أن ما يثلج الصدر يا أبي هو الجمع الكبير من الناس الذي شهدوا جنازتك حتى غص بهم الجامع وغصت بهم المقبرة حتى أن أحدهم ممن لا يعرفك تمنى يا أبي أن يراك مما رآه من ثناء الناس عليك، وكما تعلم يا أبي أنه في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه)، فاللهم اجعل من شهد الصلاة عليه شفعاء لك يا أبي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى بقلب سليم. أبي لازلت أذكر كلماتك عندما كنا نخرج إلى الصحراء للنزهة، حيث كنت تردد: (اشهدك يا جبل ويا حجر ويا شجر أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله شهادة تنجيني بها من عذاب النار) فاللهم نجِ والدي وحبيبي من عذاب النار أبي تأكد أن ما كتبته عنك ليس كل ما في نفسي نحوك ولكنه مجرد نقطة متناهية الصغر من دمي سالت على صفحات الورق فكانت هي تلك المشاعر الصادقة وإلا فأنت تعلم رحمك الله أنني أحبك حباً يفوق الوصف ولا يمكن أن أعبر عنه مهما أوتيت من البلاغة أو الفصاحة. أبي أسأل الله أن يرفع درجاتك في الجنة وأن يجعل الفردوس الأعلى مكانك من الجنة وأن يرزقني برك بعد مماتك وأن يجمعني ووالدتي وإخواني وأخواتي بك في الجنة.

مركز الحلوة بحوطة بني تميم


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد