أعتقد أن جزءاً كبيراً من ظاهرة الملفات الخضراء المتعلقة بالبحث عن عمل وندرته وصعوبته, ترجع إلى الفلسفة التي تنطلق منها علاقة الفرد المحلي مع العمل كقيمة وكأسلوب حياة. فجميعنا نعلم أن الكيان الإداري الحكومي المتضخم يعاني من ترهل وظيفي وبطالة مقنعة، بحيث أصبحت الرواتب أمراً يقترب من الضمان الاجتماعي الشهري، وليس مردوداً يتناسب مع المجهود المقدم من الموظف.
فالموظف اعتاد على فلسفة الوظيفة الأم الرؤوم الرحيمة، التي تحتويه على الرغم من قلة الإنتاجية أو المنجز، إضافة إلى محسوبيات الرجل غير المناسب في المكان اللامناسب، ولذا كانت الوظيفة الحكومية بالنسبة للكثيرين هي الواحة الآمنة اقتصادياً.
هذه الفلسفة الحذرة الواهنة تجعل الفرد يقبل بالفتات، ويتقاعس عن البحث عن مصادر دخل أخرى تقوم على شحذ الإبداع الخلاق، أو تأهيل وإعداد النفس بالخبرات والمهارات التي تدعمه في سوق عمل خاص بات يمتلك عدد من الشروط والتحديات التنافسية.
الموظف الحكومي يبقى يراوح في دائرته الضيقة يجتر نفس الخبرات العام تلو الآخر، بينما تتغير شروط الحياة وطبيعتها ومتطلباتها حوله، بالطبع هذه الدوامة لها الكثير من الانعكاسات السلبية على الاقتصاد قد يكون منها ارتفاع ظاهرة ما يسمى (بالإعالة) وهي أن يكون الأب هو مصدر الدخل الوحيد للعائلة والذي يعد محلياً الأكبر مقارنة بما يصرف في العديد من دول العالم.
وقد أشارت نتائج استبيان قامت به المبادرة الوطنية للتكافل الاجتماعي، إلى أن 90% من الأبناء لا يساهمون أو يساعدون في دعم اقتصاديات وميزانيات الأسر، ويتركون كافة الأعباء على رب الأسرة، وبالتأكيد هذا الأمر له آثاره السيئة لاسيما على من تنخفض أجورهم مقابل تضخم أفراد الأسرة.
هذا الموقف السلبي اللامبالي اتجاه الأب وتركه وحيداً في مهب المتطلبات، (هناك آباء يملؤون حتى الوقود في سيارات أبنائهم) بالتأكيد يرجع إلى منزلة العمل في سلم القيم الاجتماعية محلياً.
ففي العالم حولنا كثيراً ما نسمع عن طلبة يعملون في الصيف لتسديد أقساطهم المدرسية، أو يعملون بدوام جزئي لتسديد أقساطهم المدرسية، أو حتى أطفال يبدؤون في تكريس قيم العمل باكراً فيعملون في مرحلة الطفولة لدى آبائهم فيكون لهم دخل من جز عشب الحديقة أو حتى غسل السيارات.
بينما تنحصر طموحات الداخل إلى سوق العمل بوظيفة حكومية آمنة، القوى العاملة لابد أن تنطلق من ثقافة وخلفية اجتماعية يمثل العمل فيها قيمة جوهرية، ودون هذا لن يكون هناك فاعلية اقتصادية للآلاف من حملة الملف الأخضر الذين يبحثون عن رواتب الدولة الحنونة المتسامحة التي تشبه في بعض الأحيان الضمان الاجتماعي.