Al Jazirah NewsPaper Thursday  28/05/2009 G Issue 13391
الخميس 04 جمادىالآخرة 1430   العدد  13391
العولمة والتكتلات الدولية
د. عبد الرزاق بن حمود الزهراني

 

العالم اليوم يعيش زمن التكتلات الدولية، فأوروبا توحدت، ووحدت عملتها، وألغت الجوازات بينها، فالفرد يمكن أن يتنقل بالبطاقة الشخصية، وهناك اتحاد أمريكا الشمالية المكون من كندا والولايات المتحدة والمكسيك،..

وحديثاً وقعت دول أمريكا اللاتينية وحدة بين دولها، وهناك الاتحاد الآسيوي المكون من دول تضم اليابان وكوريا الجنوبية، وتايلاند، وماليزيا وإندونيسيا، وهناك اتحاد دول مجلس التعاون الخليجي، ونتمنى أن يفيق العرب من غفوتهم ويشكلوا اتحاداً فاعلاً وقوياً بينهم، وفي ظل هذا التوجه فإن الدولة المحلية التي تنتمي إلى اتحاد فاعل وقوي ستكون قوية وتتمتع بكثير من المميزات الثقافية والاقتصادية والأمنية والعسكرية. لقد أثبتت الثورة المعلوماتية، وثورة الاتصالات أن الدول القوية في ثقافتنا، وفي صناعاتها، وفي تعليمها قادرة على كسر الحواجز التي كانت قائمة بين الدول، فمن خلال الإنترنت، ومن خلال القنوات الفضائية أصبح مفهوم الحدود الدولية التي كانت تفصل بين الدول شبه معدوم، وأصبحت الساحات الاجتماعية مفتوحة للتأثيرات المختلفة القادمة من الشرق ومن الغرب، والتي تدخل البيوت بدون استئذان، وتصل إلى أفراد الأسرة في غرفهم الخاصة، ولا يمكن مواجهة هذا النوع من الغزو الثقافي إلا بوضع إستراتيجية تعليمية تحصينية للجيل، فكما نحصن أبناءنا ضد الأمراض المختلفة عن طريق الجرعات المتكررة، يجب تحصينهم ضد الأفكار الغازية الهدامة، وضد الجريمة والتفسخ والانحلال، ولن يتم ذلك إلا بالتصالح الداخلي بين المواطن والمسؤول، وتبادل الثقة بين الطرفين، وإيمان الجميع بأن الكل مستهدف، وأن الجميع في خندق واحد، وإذا لم يتم وضع إستراتيجية وطنية لتحصين المجتمع، ورفع درجة المناعة الثقافية عنده، فإن مشكلات الدولة الوطنية سوف تتفاقم، وسوف يتم إضعاف درجة التجانس بين سكانها، ومن ثم يمكن استخدام بعضهم ضد بعضهم الآخر بطرق خفية تخدم العدو، وتخدم مصالحه، ومن ثم تتفاقم مشكلات تلك الدول وتتزايد. ويقسم علماء الاجتماع دول العالم إلى دول المركز ودول الأطراف، ويقصدون بدول المركز الدول المتقدمة، أما دول الأطراف فهي الدول النامية، أو النائمة كما يسميها بعضهم.

النوع الأول من الدول دول فاعلة، والنوع الثاني مفعول به، وقديماً قال ابن خلدون إن المغلوب مولع بتقليد الغالب، ونحن المسلمين لا مانع لدينا من الأخذ من الآخر ما هو مفيد فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، ولا مانع أن يغزونا الآخر بالفكر النير، والعلم المفيد، أن يغزونا بشكسبير، ونيوتن، وأينشتاين، ولكن مع الأسف الغزو يتم عن طريق المغنين ونجوم السينما، ويتم ببث التعري والتفسخ، وتحويل المرأة إلى سلعة، وتدمير الأسرة، وبث الفرقة بين فئات المجتمع، وتحويل المجتمع إلى مجتمع مادي، وبسبب ذلك كثرت الأمراض الاجتماعية من جريمة، وانتحار، وغربة، ورشوة، وغسل أموال، ودعارة، ومخدرات وغير ذلك من الأمراض الاجتماعية المعاصرة، وبدأ بعض من أفراد مجتمعاتنا ينسلخ عن ثقافته، ويقلد الوافد في الجوانب الشكلية دون حرص على الجوهر، لقد ظن أتاتورك أنه بمنع الحجاب والأذان والطربوش سوف يمنع التخلف، وأن المجتمع إذا لبس البنطلون سيصبح متقدماً، فأصبح المجتمع الذي ينشده مثل ذلك الغراب الذي حاول تقليد مشية الحمام، فلم يستطع ونسي مشيته، فلم يصبح حماماً، ولم يعد كما كان غراباً، بالإضافة إلى تزايد الأمراض الاجتماعية مثل قطع الأرحام، وضعف علاقات الجوار، وانتشار المخدرات، وضعف الضمير والوازع الديني بين الناس، ومن جانب آخر للعولمة بعض الإيجابيات، فقد أحدثت أدوات قربت بين أجزاء العالم، وجعلت التواصل بين الناس والمؤسسات ميسوراً مثل القنوات الفضائية، والإنترنت، والجوال، فأنت تستطيع أن تتخاطب هاتفياً، أو بواسطة البريد الإلكتروني مع أي شخص في العالم وبدون مقابل تقريباً، أو بمقابل يسير، ويتم ذلك في وقت قياسي وقصير جداً، ولم يبق حائلاً للتواصل إلا اللغة في معظم الحالات، وتم تطوير ترجمة إلكترونية فورية لكثير من النصوص، وأتوقع أن تتطور تلك الترجمة وتتقدم وتصبح قريبة من نقل المعاني بدقة ويسر، ولا شك أن تلك الأدوات التي قاربت بين أجزاء العالم أصبحت في الوقت ذاته أدوات لحمل ثقافة الأقوياء، والدول المتقدمة إلى الدول النامية، فأصبحنا نرى المدن متشابهة في كثير من أجزاء العالم، من حيث الشوارع، ووجود الأسواق ذات المسميات العالمية، ومعظمها غربي، ومطاعم الوجبات السريعة، والسيارات، حتى إن الفرق بين المدن أصبح شبه معدوم، فما تراه في الرياض تراه تقريباً في أي مدينة أخرى، وبهذا فقدت المجتمعات الكثير من خصوصياتها العمرانية، وخصوصياتها في عادات الطعام والشراب، واللباس ونحو ذلك.

إن العالم سوف يكون أكثر سعادة واستقراراً وتقارباً لو اجتمعت عبقرية الإسلام الخالدة في شؤون الحياة المختلفة مع العبقرية العلمية التي يملك الغرب اليوم معظمها، والتي كان للمسلمين دور كبير ورائد في تأسيسها كما يشهد بذلك الكثير من المنصفين في الغرب أمثال زيغريد هونكه من ألمانيا، وجوستاف لوبون من فرنسا، وأرلوند تونبي من بريطانيا. وأعتقد أن الحل يكمن في التعليم كما ذكرت سابقاً، فلم تتطور وتتقدم أي أمة في التاريخ إلا من خلال التعليم الجاد والنافع والمنفتح على المفيد والنافع من إنتاج الشعوب المختلفة.

ورغم أن أدوات العولمة قربت بين أجزاء العالم، وزادت بواسطتها وتيرة التبادل بين الأمم والشعوب، وهيأت أدوات ميسرة للعلم والثقافة، فإن للعولمة الكثير من السلبيات منها نشر الفقر، فالأثرياء يزدادون ثراء، والفقراء يزدادون فقراً، فالدول المتقدمة يسكنها حوالي 20% من سكان العالم، ولكنها تستحوذ على أكثر من 80% من ثرواته، والشركات متعددة الجنسية التي يملك العالم المتقدم الغالبية العظمى منها هي التي تدير العالم بطرق مباشرة وغير مباشرة، ومن سلبيات العولمة تلويث عناصر البيئة من تربة وهواء وماء، وذلك عن طريق نشر ثقافة الاستهلاك على الطريقة الغربية، وأدت إلى تركيز السكان في المدن مما أحدث المزيد من الزحام، والمزيد من التلوث، والمزيد من الجريمة وغلاء المعيشة، كما أن العولمة أدت إلى انتشار الكثير من الأمراض الاجتماعية كما ذكرنا سابقاً، وفقد الإنسان بسببها السعادة والاستقرار والأمن والطمأنينة.

أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام
رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية لعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية


zahrani111@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد