Al Jazirah NewsPaper Thursday  28/05/2009 G Issue 13391
الخميس 04 جمادىالآخرة 1430   العدد  13391
من الغاط إلى تكساس: تجارب بين السماء والأرض
اللواء الدكتور محمد بن فيصل أبو ساق

 

(طريق النجاح بحاجة إلى مؤن من الحب والتسامح والمعرفة والانضباط). جاءت هذه الكلمات في بداية حديثه عن مسيرة حياته الدراسية والعملية التي تجاوزت خمسا وأربعين سنة.

تنوعت بين الدراسة الابتدائية في قريته وسط الصحراء إلى الدراسة والتدريب العالي في أفضل قاعات العلم والتقنية جاهزية في سلاح الجو الأمريكي, وغيره. وقد بدأت رحلته العلمية والمهنية في كلية الملك فيصل الجوية بالرياض داخليا. وخارجيا في قاعدة لاكلاند الجوية الأمريكية حيث معهد اللغات العسكري في ولاية تكساس, الذي علقت على مدخله في السبعينيات الميلادية حيث الحرب البادرة, لوحة كتب عليها: (هنا ندرب قادة العالم).

ومنذ زمن مبكر يحفظ في ذاكرته تلك المقولة الشهيرة (لا بد من صنعاء ولو طال السفر). وصنعاء هنا هي رؤية شخصية تعني له أن لا بد من العمل الجاد للوصول إلى الغايات. وحين سجل سيرته وذكرياته وفلسفته في الحياة ورؤيته لكيف يكون النجاح, قال إنه لم يكتب ذلك لشهرة أو مال، وهو يؤكد انه كتب (ليساهم في بناء جسر يعبر فوقه تائه ينظر إلى الضفة الأخرى ولا يعرف الطريق).

كانت المذكرات الشخصية والسير الذاتية لكبار الضباط والمسؤولين عموما من أهم مصادر القوة المساهمة في تطوير المؤسسات العسكرية والمدنية. وتعمل الأكاديميات العسكرية العليا على تعميق مفهوم موروث القادة عبر ثلاثة محاور رئيسية. فهي تحث القادة وجميع من لهم تجارب ثرية من العسكريين على توثيقها بالتسجيل عبر ما يتوافر لهم من وسائل. ومن ناحية أخرى, تضع المناهج الدراسية التي تمكن الكثير من الدارسين في المستويات العليا من إجراء بحوثهم ومتطلبات دراساتهم عبر توثيق السير الذاتية لقدامى العسكريين بأساليب منهجية تضمن جودة الرصد والمقارنة لما لدى القدامى من مذكرات وذكريات. ومن ناحية ثالثة, فإن المؤسسة العسكرية تعول كثيراً في مسيرتها وتطورها ودروسها المستفادة على التجارب السابقة لما فيها من واقعية ومصداقية ذات ارتباط شديد بواقع الحال.

ولأن الجيوش لا يمكن لها أن تحقق الفعاليات المطلوبة للتفوق في عملياتها, وللنصر في حروبها, إلا حين يكون التطوير عملية دائمة لا تتوقف؛ فالتطوير يعتمد بالضرورة على التجارب الذاتية الصادقة. هذه التجارب الذاتية للمنسوبين تجعل جيل القادة اليوم قادراً على تحقيق الرؤية الصائبة, حول من ومتى وكيف ولماذا وأين يكون التغيير أو التطوير. ومهما استفادت المؤسسة العسكرية من تقنيات ومعدات وأسلحة أجنبية فإن بيئتها وتفاعلها مبني على تجارب ذاتية محلية يفترض أن تكون لها الأولوية في رؤية النجاح.

أكتب هذه المقالة بعد قراءتي لكتاب بعنوان: (عشت حياة سعيدة, من الدراجة إلى الطائرة). هذا الكتاب بمثابة سيرة شخصية لطيار حربي سعودي برتبة جنرال، تقاعد مؤخرا بعد حياة عملية مليئة بالإثارة والتحدي, وجاءه التكريم بتعيينه عضوا في مجلس الشورى. لقد كان من الجيل الذي شهد نقلات نوعية لا تصدق في طبيعة حياتنا في المملكة. وفي الكتاب وثق أهم الذكريات التي عاشها في صغره في قرية سعودية تشابه طبيعتها وظروف الحياة فيها كثيراً من قرى المملكة الأخرى. وكان قادرا على رصد التحولات الإدارية والتغيرات الاجتماعية والتنموية؛ حيث تمكن من وصف طبيعة الحياة في عقد السبعينيات الميلادية في المملكة مقارنة مع الدول الغربية التي زارها ودرس أو تدرب فيها. وحيث نعلم أن خمسة عقود مضت من البناء والتغيير في المملكة قد شكلت واقعنا اليوم ودار خلالها حراك كبير محليا وإقليميا وعالميا وتغيرت فيها المواقع وتبدلت فيها الأسلحة والمعدات والتقنيات, فإن مؤلف هذا الكتاب كان شاهداً برؤية متكاملة حيث المناظر التي شاهدها من كرسي طيار الحرب على ارتفاعات فضائية متعددة قارنها مع المناظر التي شاهدها فوق سطح الأرض وما بينهما. وحتى غبار المصانع فوق مدننا تمكن من رؤيته بالطائرة والتحدث عنه ومقارنته مع زمن كان يسوده السكون والصفاء وحياة الماضي التي لم تعرف النهضة أو البناء.

لقد كانت المملكة ولا زالت أسرع من غيرها في البناء والتغيير الذي تصاحبه الكثير من التحديات الإدارية والمهنية, وكنا ولا زلنا أحوج ما نكون للدروس المستفادة من تجاربنا ومن بيئتنا لتصبح أساسا متينا لمستقبلنا. فالجامعات التي تدرس شؤون الإدارة العامة وإدارة الشركات وإدارة الأزمات في الدول المتقدمة تزخر مكتباتها بالتجارب الذاتية التي تتحول إلى فكر أكاديمي يصل إلى قاعات الدروس؛ حتى تعمّ الفائدة, وحتى لا تتكرر الأخطاء كتب اللواء الطيار عبدالله السعدون سيرة حياته بطريقة موفقة تجعلك قادرا على مقارنة كل حقبة تحدث عنها بما يليها وبواقعنا اليوم أيضا. وقد وضع سجل حياته وتجاربه العملية من منطلق رغبته في الاستفادة منها لمن يأتي بعده ليحقق بذلك غاية سامية نحو موروث القادة بمفهومه الوطني.

وقد استلهم المؤلف مقولة الفيلسوف اليوناني هراقليطس (إنك لا تضع قدمك في النهر مرتين)، وجاءت في مقدمة كتابه مؤكدا على غايته من نشر الكتاب الذي أشار إلى أنه بمثابة تجربته, وقال عنها: (في هذه التجربة نجاحات وإخفاقات, لكن النجاحات أكثر, ومعظمها قابل للتطبيق على المستوى الشخصي والأسري والعملي). وبالنسبة للكثير من الموظفين مدنيين وعسكريين ممن هم اليوم في سن التقاعد أو يوشكون على ذلك أو منهم في مستويات قيادية عليا في بلادنا حاليا, سوف يجدون تشابها كبير بين ذكرياتهم وما ورد في هذا الكتاب لأنه سجل رائع لعدة عقود مضت. وحين قرأت الكتاب وضعته جانبا وأصبحت أعود إليه من فترة إلى أخرى وتمنيت أنني قرأته وأنا طالب عسكري في بداية عقد السبعينيات الميلادية, أو حين كنت ضابطا برتبة صغيرة, أو في رتبة عقيد أو عميد. وتمنيت أنه كان في حوزتي وأنا أحضر ندوة علمية في الشؤون الاستراتيجية لكبار موظفي الدولة في إحدى البلدان الغربية, وأنا عضو في مجلس الشورى.

زميلنا السعدون قدم هدية ثمينة للفكر العسكري والإداري والاجتماعي السعودي, وجعله بعنوان: عشت سعيدا. وأنا متيقن أن تلك السعادة لم تأتِ محض الصدفة؛ بل عبر تحديات وصعوبات؛ ومثلما عاش سعيدا رغم التحديات, فإنه انعكاس واقعي لبلادنا العزيزة في نهضتها ونجاحاتها؛ حيث عاشت سعيدة رغم التحديات. وتحت عنوان قبل المغيب, يقول المؤلف: (كلما حققت شيئا تذكرت مقولة العالم إسحق نيوتن: (إذا كنت أرى بعيدا, فذلك لأني أقف على أكتاف العظماء))، وهو يشكر كل من ساهم في دعمه وتعليمه منذ كان طالبا.

في ربوع المدرسة ومجتمع القرية, وصراع من أجل البقاء, ولا يأس مع الحياة. والمعركة ودروس وأهداف, وإنجازات, وخطوات في مدرسة الحياة. بداية التغيير, ومحاولات لم يكتب لها النجاح على مفترق الطرق. وفي الولايات المتحدة, والزيارة الثانية إلى بريطانيا, والعودة إلى المملكة, وأخطاء بين السماء والأرض, ونداء في الظلام. القيادة, والاستثمار في العقول, وطلائع الصحوة, ليسوا ملائكة. الاتجاه شمالا وعودة إلى الشمال, وضريبة الإهمال, ومأساة أمة, ومفارقات, ودروس من الميدان. البيئة, والثروة المهملة. كل هذه الجمل ليست إلا بعض عناوين فصول الكتاب الذي أتمنى أن تعتمده الكليات العسكرية السعودية ضمن مقرراتها للقراءة الإلزامية. كما نتمنى أن يكون دعم هذا الكتاب من المؤسسات العسكرية دافعاً معنوياً لجعل المزيد من العسكريين من ضباط وأفراد يقومون بنشر تجاربهم الثمينة لتكون رصيدا للأجيال القادمة ولمؤسستنا الوطنية عموما والعسكرية خصوصا. والله الموفق.



mabosak@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد