لكل منا رؤيته لما حوله ولمن حوله، وفلسفته لكثير من القضايا والإشكاليات، وجزماً لم تكن لا هذه ولا تلك وليدة الصدفة أو بنت اليوم بل تكونت عبر الزمن وولدتها الأحداث وصقلتها التجارب، ولأن المرجعيات التربوية مختلفة والظروف التي مرت على كل منا ليست واحدة فالرؤى تتباين وقد تتقاطع في بعض ركائزها الأساس وربما كان الاختلاف سبباً للمقاطعة والنزاع، ومن خلال المجالسة والمحاورة يمكنني القول إن الإنسان أحد هؤلاء:
* هناك من لا يملك رؤية مستقلة ذات بعد تحليلي نقدي وليس لديه قناعات شخصية متجذرة ولكن (مع الخيل يا شقرا) وهذا وإن اتفق معك في قناعاتك الشخصية أياً كان محل الاتفاق فهو في نظري مقلد بسيط يعيش خارج الزمن وقد يخالفك ويختلف معك بين عشية وضحاها متى ما اعترضه مؤثر جديد، فهو لا يملك قاعدة متينة يبني عليها بناءه الفكري والسلوكي، فاقد لمفاتيح الحوار التي بها تقدح الفكرة وتسبر أغوار الكلام، ولذا قد تجد نفسك في حرج حين تلتقي أحدا من هؤلاء، فأنت عندما تحدثه لا يحاور بقدر ما تحاضر، والعالم المتحضر ينتقص وينتقد من لا يملك رؤية واضحة ويزدريه ويقدر ويحترم صاحب الرؤية والموقف وإن كان مخالفا لما هو عليه.
* وهناك من يملك رؤية وقد تكون رؤية ناضجة ولكنه لا يبوح بها لأسباب دينية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية وربما لمصلحة آنية، ويميل غالباً إلى مجاراة المتحدث وموافقته حتى لا يدخل في نقاش أو ٌيُعرف توجهه الذي يحاول أن يخفيه فيحارب، أو على الأقل يفقد صداقات تظنه يوافقها فكرياً، أو من أجل مصالح قائمة أو مرتقبة، أو يتهم في دينيه لطرحه رائياً جديداً خلاف ما هو معروف عن علماء الأمة وسلفها الصالح، أو يظن في ولائه السياسي أو انتمائه الوطني ظن السوء، أو ما إلى ذلك، وهذا النوع من الناس كثير في عالمنا المعاصر وللأسف الشديد ولكن تتعدد الصور وتختلف الأشكال، البعض منها مقبول وهناك ما هو مرفوض، واللبيب الفطن يعرف غالباً منّ من الرجال يجالس وإن لم يكن الحوار فكرياً ولا علاقة له به لا من قريب ولا من بعيد، فهو سيجد في ثنايا الكلام ما يعطيه دلالة حتى ولو ظنية راجحة على أن صاحبنا يملك رؤية خاصة إذا كان المحاور قارئا متمكن للأفكار عارف للمنطلقات الأيديولوجية العامة والتقاطعات المحورية الهامة في التيارات والشخصيات المؤثرة على عقول القراء وأصحاب التفكير الحر.
* هناك من يملك رؤية ولكنه حصيف يعرف متى يتحدث وأين، فلا يصرح بما هو خلاف السائد إلا عند من يعرفون قيمة الفكر ويثمنون العقول ويزنون الأمور حتى لا تكون أطروحاته وآراؤه محل سخرية واستهزاء وربما شماتة وازدراء، وهذا - صاحب الرؤية الحصيف - إن كان هو يعرف ويثمن ويزن الأمور فسيكون من خلال حوار المجلس الذي طرح فيه بضاعته أول المستفيدين، وقد يصحح كثيراً من قناعاته أو يقويها مع الزمن، إذ من الخطأ إسقاط الزمان من الحسابات والتغافل عن تأثير المكان وسيطرة الفكرة مجردة دون الجذور والساق.
* هناك من يمارس النقد بشكل فج ويظن أنه يملك رؤية ينطلق منها في نقده وتحليله ولكن حين الحوار معه وسبر أغواره تجده فارغاً إلا أنه من خلال المران والدٌربة أتقن فن النقد والتصنيف وحفظ النصوص وهذا النوع من الناس قد يحيد عن جادة الحق حين الحكم على الأفكار والأشخاص لأنه لا يقرأ إلا الأثر ولا يرى إلى السلوك ولا يصل به زاده الفكري وثقافته المعرفية إلى المائدة التي أكل منها (س) من الناس أو (ص)، لا يصل إلى العمق فيقف على المنطلقات والقناعات والتوجهات والقيم، وإنما يكتفي بالقشور دون اللب.
* وهناك من يملك رؤية ولكنه متعصب لما يراها ويظن أن الحق دوماً معه، ولذا لا يسمع بقدر ما يظن أنه يسمع، ومتى وجد فكرة تبناها بعد أن يضع بصمته الشخصية عليها، ثم أسرع للصدع بها بلا هوادة أو حوار وهذا غالباً سيُخضع هو نفسه بنفسه للمراجعة بعد الأربعين من عمره إن عاش.
* وهناك من ما زال يعيش مرحلة الشك ولا يثق بفكرة ويتبناها إلا جاء من يجتثها من جذوره، وهناك وهناك... أصناف وأوصاف جزما يراها كل منا صباح مساء وربما سنراها بوضوح أكثر في القادم من الأيام، فقط علينا التركيز بشكل جيد حين المجالسة أو القراءة لعقول الكتاب وحروفهم، ومع أنني أذكر هذه الوصفة السريعة للقارئ الكريم إلا إنني لا أمارس ذلك وأتبنى مقولة من قال (كن نسيجاً لوحدك) واعترف أن عرض عقلك على القراء كل أسبوع مرتين أو يزيد عملية شاقة، ولكن لهذا المقال قصة والمعنى في بطن الشاعر، وإلى لقاء والسلام.