برحيل الإدارة المحافظة التي قادت الولايات المتحدة الأمريكية خلال سنوات من الأحداث النوعية التي غيّرت خريطة العالم تستطيع قوى عديدة في العالم أن تتنفس الصعداء، فالأسمر الشاب الداخل إلى البيت الأبيض بمزيج من روائح أساطير الذاكرة الزنجية المعذبة وشرعية الاختيار الديمقراطي الحداثي لن يكون أسوأ من سلفه بوش حتى لو خابت الانتظارات المرصفة حوله أو اضطرت إلى تعدّل اندفاعها.
ستذكر العروبة الشعبية لبوش قصته مع العراق وانحيازه المخل لإسرائيل فيما لن تنسى العروبة الرسمية لإدارة المحافظين الجدد معركة حرق الأعصاب التي أتى بها مشروع أمريكا لدمقرطة العالم العربي بشروطه المثيرة واملاءاته التي فاقت حدوداً تحمل نسقاً من السياسة العربية جمده برود قياسي تجاه قضايا الديمقراطية والإصلاح.
ما لا يمكن أن ينسى في سياق موجة إملاءات تلك المرحلة العصيبة على النظام الرسمي العربي هو مطالب تغيير الأنظمة التعليمية السائدة في عددٍ من البلدان العربية بعد أن اكتشفت الولايات المتحدة الأمريكية على وقع هول سبتمبر أن أنظمة تعليمية عربية بعينها تكون بالقوة والفعل بالنظر إلى مضامين مناهجها وخلفياتها وآلياتها مصنعاً مثالياً لجيوش المتطرفين والتكفريين، لم يكن الهاجس الأمريكي متصلاً بغيرة موضوعية على مصائر أنظمة التعليم في بلداننا بقدر ما كان ضغطاً أمنياً أملته الرؤية المركبة لما سمي الحرب على الإرهاب.
الآن تغيرت معادلات عديدة في السياق الدولي الذي جاء بمضامين تلك الضغوطات والإملاءات لكن السؤال الذي بقي محافظاً على إلحاحيته هو مدى زوال الحاجة من عدمه لإنجاز تغييرات جوهرية في أنظمتنا التعليمية؟؟؟
أعتقد جازماً أن الضغط الأمريكي لئن اندرج ضمن المقولة العربية الأثيرة - كلمة حق أريد بها باطل - فإن قضية إصلاح أنظمتنا التعليمية تظل مركز الاستقطاب الاستراتيجي لكل مفاصل المشروع النهضوي العربي الرابض إلى الآن في مربع الطموح والانتظار.
مطالعة التقارير المختصة حول حالة التعليم في الوطن العربي بمثل ما أشارت إلى ذلك مقالة سابقة حول الموضوع للدكتور عثمان التويجري المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم لا يمكن إلا أن تثير الخوف والفزع تجاه مستقبل التنمية العربية وهي تسير عرجاء منهكة دونما قاعدة إسناد صلبة تجدها في تعليم يفتح الأبواب سالكة أمام التقدم والتحديث والإصلاح في وطننا العربي.
تونس والسعودية والأردن، من البلدان التي أتى على ذكرها التقرير الاقتصادي العربي الموحّد لسنة 2008م الصادر عن جامعة الدول العربية التي تمكنت من تركيب بعض ملامح نقاط ضوء وسط العتمة العربية، فالنسب المخصصة لتمويل التعليم ضمن الموازنة العامة للدولة أو النسب المتقلصة للأمية أو الجهود الدائمة للتطوير والتواؤم مع نسق العصر في مجال منظومات التربية والتعليم هي عناصر صنعت تميز هذه البلدان العربية الثلاثة التي تحاول جعل أنظمتها التعليمية في مستوى رهانات تنميتها. لكن على الرغم من ذلك فإن التحديات التعليمية تبقى قائمة في هذه البلدان وغيرها من أجل مسك رهان الجودة في مستوى ما يقدمه التعليم العربي بغض النظر عن أسئلة الهوية والخصوصية الثقافية وما شابه ذلك من الخلفيات على أهميتها التي لا يمكن أن تلغي تركيز التساؤل حول قدرة مدارسنا وجامعاتنا العربية على تخريج كفاءات علمية حقيقية يقترب مستواها من المقاييس العالمية وتملك القدرة على تحمل أعباء تنمية مجتمعاتها.
لقد انحرفت الأسئلة حول التعليم في وطننا العربي تحت ضغط أجندات السياسة من أسئلة علمية تقنية تشتغل على قضايا النجاعة والمردودية إلى أسئلة عقائدية وإيديولوجية سبقت قضايا الخطاب الثقافي وأسئلة الهوية على حساب قياسات الجدوى من زاوية تشبع أنظمتنا التربوية بروح العلوم والتقنيات الحديثة.
حصلت عملية اجتزاء قاسية انخرط فيها قطاع واسع من المثقفين تحت وقع تحديات الهموم السياسية الطارئة حولت قضايا التعليم العربي إلى جزء من منابر التطارح السياسي في أكثر واجهاته اندفاعاً نحو المزايدة وتغييب المشاكل الحقيقية، اندفعنا وراء إطلاق صيحات النفير دفاعاً عن تعليم ماضوي متكلس رأينا فيه رمزاً لهويتنا وخصوصيتنا الثقافية لا لشيء سوى لأنه مستهدف من الغرب وأمريكا، انسحب الخبير والاختصاصي لفائدة الديماغوجي في أكثر مجالات التنمية البشرية حيوية، حيث من المفترض ألا تكون الكلمة سوى لمهندس المعرفة الذي يقيّم ويخطط بلغة المردودية لا بلغة الخير والشر.
لم تعد أسئلة الأمية وتخلف منظوماتنا التعليمية تحتمل حديث الايديولوجيا أو أدب المزايدة السياسية، ما تحتمله فقط هو الإجابة عن الأرقام المفزعة المنتصبة أمام واقع تعليمنا العربي حول مردوديته العلمية المتدنية، حول نسبة الأمية المرتفعة، حول عدم وجود ولو جامعة عربية واحدة من وطننا العربي الهادر من المحيط إلى الخليج مصنفة ضمن الترتيب العالمي لأكثر الجامعات وجاهة ومستوى علمياً مرموقاً فيما تملك إسرائيل أكثر من جامعة واحدة صلب هذا الترتيب العالمي.
إلى أن يأتي اليوم الذي نكتشف فيه أن رهانات التعليم هي الأصل في كل مشاريع النهوض والقاعدة في مجمل استراتيجيات التطوير، نستطيع أن نهنأ بحدس آباء النهضة العربية الذين تحسسوا الطريق منذ القرن التاسع عشر إلى وصفة النجاة: التعليم العصري والحرية.
الأحفاد يكافحون لتلمس طريق سالك نحو الرهان الأول، أما قصتهم مع الحرية فتلك قضية أخرى.
كاتب وإعلامي من تونس
bssais@Yahoo.fr
خاص «الجزيرة»