وحين تجد الأمة نفسها في أتون الاختلاف اضطراراً لا اختياراً وحَتْماً لا احتمالاً داخل المنظومة الفكرية الواحدة فإن من الحصافة والرصانة والتوفيق أن ترتب أوراقها على هذا الضوء وفي ظل تلك الأجواء وأن تكون حكيمة..
... في التوفيق بين وجهات النظر وحسن إدارة الاختلاف، وإذ لا بد مما ليس منه بد فإن من المغالطة وهدر القوى محاولة الفكاك المستحيل وخير الأمة في القبول والرضا وترتيب الأمور على ضوء الأحوال والإمكانيات.
وهذه التطلعات ممكنة متى أذعن الفرقاء للحدود المعقولة والمقبولة للاختلاف، ولن تتمكن الأطياف من ترشيد الاختلاف حتى تنْطلق من الفكر الأُصولي بمفهوم الفقهاء، فهو وحده الذي يستطيع ضبط الإيقاع، وكيف لا يضبطه، وهو قد ضبطه في عصور الإسلام الذهبية عصور المذاهب والتيارات.
ولو نظر المصطرعون إلى مخاضَات الاختلاف في الحضارة الإسلامية لوجدوا أن العلماء الناصحين تفادوا الفرقة بالتأسيس المبكر لعلم الأصول والمقاصد ولا حاجة بنا إلى النظر إلى نتوءات السياق، فالذين توقفوا عن التماس حكمة التشريع وعلل الأحكام والمقاصد انطلقوا من ظواهر الدلالات لبعض آيات الذكر الحكيم كقوله تعالى: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) وكأنهم تصوروا أن التماس العلل من باب سؤال المشرع عن حكمة تشريعه، وإن كان ثمة حق في مثل ذلك فهو حق إلى حد، وبخاصة حين يتوسع الأصوليون في تعليل الأحكام أو حين يطلقون العنان للعقل، ومثلما أخذ المعاصرون بيريق الحرية المطلقة، ولم يَرْضوا بتأطيرها بمقاصد الشريعة، فإن طائفة من فقهاء الرأي أبعدوا النجعة، وحملوا الظاهريين على تضييق الخِناق، ولا أحسبنا قادرين على الخلوص من الفعل ورد الفعل.
ومتى تراجع ذوو الشأن عن مواكبة علم الأصول تقلص الإنتاج المعرفي التواصلي والتوافقي في آن، والأمة المستباحة بخطابات علمانية وعولمية و(ليبرالية) بأمسّ الحاجة إلى تشكيل مشروع معرفي يضع في أولوياته تحديد محققات حضارة الانتماء وتحديد المفاهيم العامة لقيم الحضارة وتوضيح المبادئ التي تساعد على تشكيل الذات ونقاء الهوية، وليس هناك ما يمنع من تجسيد رؤية جديدة للخطاب الشرعي يتوسل بالمقاصد والمصالح ويَطَّرح الحدَّة والحدِّيَّة.. ولن يتم تقويم الركام المعرفي المتناقض بتحكم الرغبات والأهواء، ومن ثم لا بد من التأسيس والتأصيل والمنهجية، وإذا لم نتوفر على معرفة شاملة بالشريعة وفق الضوابط الأصولية والمعرفة الدقيقة بالواقع والإمكانيات المتاحة فإن زمن التيه سيمتد بنا، وعند الصباح لا نحمد الغفلة والنوم العميق، وبالتالي ينفلت زمام الأمر والمبادرة من أيدي قادة الفكر وزعماء الإصلاح ورواد النهضة، وإن أخطر ما يتربص بالأمة تعدد السلطات وتنازعها حول تقرير المصير، فالمؤسسة السياسية والمؤسسة الدينية والمؤسسة الفكرية تتجاذب الأزمة ومصير الأمة لمَّا يستقر بعد.
وليست بوادر الاضطراب وقفاً على الحاضر، لقد كانت هناك محطات كادت تكون حاسمة في مسير الأمة الفكري ف(الشاطبي) مثلاً له كتابان: (الموافقات) و(الاعتصام) فالأول تأصيلي، والآخر تحذيري.. والعلماء الناصحون يرصدون للحراك الفكري، فإذا مال كل الميل إلى حقل معرفي وأضر بالحقول الأخرى بادروا إلى ترشيد المسار وحفظ التوازن، و(الشاطبي) لم يناقض نفسه، فهو حين يميل إلى التأصيل ثم يجد الاندفاع غير الموزون يتدارك الأمر لحمل الأمة على الرجوع إلى الكتاب والسنة والانطلاق منهما، فظاهر الأمر أن الكتابين متناقضان، وهذا غير سديد، فالاعتصام رصد لواقع شهده المؤلف والموافقات ضبط للإيقاع والسلفية التي تنطلق من مصدري التشريع تضع قيمة متوازنة لكل الجهود المعرفية، والقول بما كان عليه محمد وأصحابه لا يعني الاستغناء عما وضعه العلماء من ضوابط وأصول وقواعد، وتراث الأمة المعرفي لا يمكن نسفه تحت أي مبرر، ومثلما أن الشارح الوسيط لا يقطع الصلة بالنص المشروح فإن الجهود المعرفية وما توصل إليه العلماء من مناهج وآليات وضوابط لا يمكن الاستغناء عنها، والسلفيون يحذرون من الحيلولة دون الوصول إلى النص والتعامل معه كما لو كان فرداً في المشهد، وإذ تتعرض بعض المذاهب لتعصب يعطل لعقل ويقطع الصلة بمصدري التشريع فإن السلفية بوصفها مذهباً ينازع المذاهب الأخرى قد يتعرض بعض علمائه إلى طائف من التعصب الذي يتعمد إجهاض القيمة المعرفية لسائر المذاهب، ولو نظرنا إلى الخلاف القائم بين: (محمد سعيد البوطي) بوصفه حنفياً متعصباً و(محمد ناصر الدين الألباني) بوصفه سلفياً عَصَبِيَّاً، وهو خلاف بلغ ذروته لما وجدناه خلافاً ينطوي على أي طائل، إذ بالإمكان التقاء الطرفين أو تعاذرهما، ولا سيما أن كل واحد منهما ينتمي إلى مذهب معتبر، وذي حضور فاعل عبر التاريخ الإسلامي، ويقيني أن مردَّ ذلك إلى عدم التسديد في إدارة الاختلاف وتنمية الائتلاف، وهو ما نحاول تحقيقه، وصراع الأقران وتحاسدهم عائد إلى الأثرة وفَقْد قواعد التعامل مع العلماء وفوق هذا فقد بليت المشاهد بقراء مبتدئين يعدون أنفسهم من العلماء وهذا مصداق ما جاء في الأثر الذي رواه الطبراني والحاكم في مستدركه: (سيأتي على الناس زمان يكثر فيه القراء ويقل فيه الفقهاء).
وخلاصة القول إن الاختلاف ظاهرة أزلية، فالصحابة اختلفوا والرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم واختلفوا بعد وفاته، ويكفي أنهم اختلفوا في أحرج المواقف، لقد اختلفوا في وفاته وما جمع كلمتهم إلا أبو بكر الصديق الذي تلا عليهم: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ...) الآية.. واختلفوا في مكان دفنه ولم يحسم الخلاف إلا حديث روي عنه صلى الله عليه وسلم، واختلفوا في الخلافة من بعده وما أنقذ الأمة إلا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، واختلفوا حول قتال مانعي الزكاة وما تداركتهم إلا عزمات الصديق، وإذا كان الاختلاف بهذا القدر في زمن الرسول والخلفاء الراشدين فإن المتوقع أن تتسع رقعته وأن تتشعب مناحيه.
ولقد يكون الاختلاف نعمة وسعة متى أحسن الأطراف إدارته، حتى لقد عدّ بعض السلف اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم رحمة للأمة يقول القاسم بن محمد: (لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي) ومجال النفع أن كل تابع يرى أنه اقتدى بصحابي.
وفي النهاية فالحق ليس حكراً على طائفة، ولا يدَّعي العصمة من الأخطاء إلا المغرورون، والحق لا يعرف بالرجال ولكن الرجال يعرفون بالحق.
لقد حاول ابن تيمية ضبط الإيقاع بين العقل والنقل وتلك المحاولة المسددة لو أُعيدت قراءتها لأمكن رسم خطة سليمة لإقالة عثرة الأمة واستئناف رحلة راشدة تمكن من إدارة الاختلاف واستثمار الائتلاف.