Al Jazirah NewsPaper Tuesday  26/05/2009 G Issue 13389
الثلاثاء 02 جمادىالآخرة 1430   العدد  13389

إنما هو حبٌّ لك لا تحيُّز ضدك 1-2
وكتبه لكم:أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري -عفا الله عنه

 

إذا كانت شهادتي لأمثال الدكتور محمد عبده مجروحة؛ فإنني أحب أن أُبدي ما ذكره بعض الآخرين قبل أن أُدلي بشهادتي؛ فقد كنتُ في دعوة علمية ببيت المحبِّ الدكتور سعود المصيبيح في حشد كبير من ذوي العلم والثقافة تكريماً لسعادة الدكتور إبراهيم بن مبارك الجوير؛ فلما بدأ يتحدث، وينشد محفوظات له من شعر الفنان الكبير عمر أبوريشة هزَّني مقطع له من ملحمة في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت للحشد: (سأقول ما هو عَضُّ رِيام(1) في حق معالي الدكتور محمد عبده يماني، وأخشى أن يُحَوِّل ذلك العض إلى معركة أدبية أو علمية، وسأختار أبياتاً من هذه الملحمة الرائعة ضمن (أدبيات الظاهري) بعد الفراغ من (أدبيات الدكتور محمد عبده)؛ ولما قمنا للعشاء وكان معي موسى بن محمد السليم ذكَّرني بمقالة معاليه.. وكان بجنبي أيضا الدكتور محمد العوين؛ فوعدت بكلمات إنصاف وانتصاف معاً سواء أكان موضعُ النقد أمثالَ (البوصيري)، أو أمثالَ ابن قيم الجوزية وشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله تعالى؛ فشهد لمعاليه السليم وهو مرؤوسه في العمل بأخلاق كالماء الزلال لطافة، وتواضع جم، ورِعاية للمواهِب يأخذ بأيديهم ويشجعهم، بل يحضر نشاط الطلبة في التِّلفاز، ويتلطَّف في التوجيه، ويسعى جاهداً إلى حضور خادم الحرمين الشريفين للحفل.. ثم ثنَّى الدكتور محمد العوين بأن الدكتور محمد عبده فرض طاعته على الجميع واستماتتهم في العمل محبةً وملاطفةً وتواضعاً منه لا رهبةَ حسمٍ من الراتب أو شبهه.. ثم علمت منه أن معاليه يدفع سراً من جيبه مساعداتٍ لفقراء المستخدمين وشبههم.. وما أجل شهادة أهل الخير عند الله كما في الحديث الصحيح (وَجَبتْ).. وفي جنيف ألحَّ عليَّ بالعتب بلطفٍ؛ إذ لم أَرْثِ شيخي أبا تراب- رحمه الله-، ويدفعه في هذا التحمُّس الكريم شدةُ الوفاء؛ لأنه لم يكن اطلع على مرثيتي التي نشرتها متأخرة؛ لأنني كنت في بوستن أيام أحداث أمريكا المشؤومة على العرب والمسلمين، وأنها كانت حال سَكْرة لما جاءني الخبر كان كالصاعقة، ولم تحصل الفكْرة إلا حال عودتي.. وهكذا تأخَّرَ رثائي لشيخي حمد الجاسر رحمه الله تعالى.

قال أبو عبدالرحمن: والله الذي لا إله إلا هو الذي لا يُحلف بمعبود سواه قسماً بّرْاً - ومن حُلف لله بالله فليرض، ولا سيما من شويخ أكل عمره حسرةً في سنِّ الورع والإنابة -: إنني لا أنسى أبداً فضلكم عليَّ، وإفضال والد الجميع صالح كامل بسعي منكم، وإفضال الدكتورين الخويطر والقصيبي، وهذا لا يمنع من الاختلاف في الرأي إذا وُجد مُقْتضيه، وواجب مني ومن معاليكم بيان الحق فيما اختلفنا فيه، ثم يسلك كل واحد منا مسلكه العلمي إذا صدقتْ نيته مع ربه ثم مع نفسه، وتعب في تحقيق المسألة.. ولقد قرأت مقالتكم- حفظكم الله- في جريدة (الجزيرة) (العدد 13865 في 7-5-1430هـ بعنوان: (لا تنبشوا ما كان مدفوناً)؛ فأثار شجوني جداً ثلاثة أمور:

أولها: التدفق الأدبي الفني في مقالة معاليكم؛ مما يستدعي مداخلةً ومؤانسة.

وثانيها: التباس حصل لمعاليكم عن حسن نية؛ فأوضح لمعاليكم مرادي - وهو واضح في مقالتي بلا أدنى لبس لغوي أو فكري -، وهو إيضاح يقتضي براءتي من التحيُّز ضد معاليكم، وأعوذ بالله من نُكران الجميل، والإساءة لذوي الفضل.

وثالثها: أن معاليكم أسمعني سجع الحمام ففرحتُ، ثم أسمعني زئير الأسد فخفتُ عندما قال: (الحبل على الجرار)، وليس خوفي من ضحولة في فكري، أو نقص في حجتي، أو عدم تدفُّق في أسلوبي؛ وإنما خوفي أن يكون مثل معاليكم في فضله وإحسانه محلَّ الشكِّ في حبي وحسن نيتي؛ لهذا أقف مع معاليكم موقف المعتذر والمنصف معاً بوقفات كوقفاتي مع تفسير التفاسير؛ فأعانكم الله وأعان الجميع على التلقي بصبر أيوب وحلم القاضي:

الوقفة الأولى: أنه سيأتي إن شاء الله شيئ من الجدِّ الصارم في هذه المقالة؛ فأحبُّ تهيئة الأذهان بهذه الوقفة بشيئ من ترطيبات الجمال الفني إن وجدناه؛ فقد أثار أشجاني الإيمانية بالإلماح إلى (القلب يعشق كل جميل) - أو الألب يعشأ بلغة القاف المهموزة اللذيذة - لبيرم التونسي، ولا أدري كيف نُسبت إلى صاحب السمو الملكي الأمير عبدالله الفيصل- رحمه الله تعالى- وهو بريئ من معانيها الصوفية، وقد غنتها الست عام 1972م بلحن رياض السنباطي، وما علينا من الغناء، بل نريد السبح مع جمال الكلمة، وهي من الزجل باللغة الثالثة الأقرب إلى الفصحى إن كان هناك سَبْح، ولكنه من الغزل الصوفي بالرب سبحانه وتعالى، وهذا مُوْحش مُنكر؛ أَفَيَليقُ بجلال الله وعظمته أن يقال عنه:

القلب يعشق كل جميل

وياما شفت جمال ياعين

إن الله سبحانه جميل بنص الشرع الصحيح، وهو جمال كمال، ولكن كيف نُعبِّر عن هذا بعشق الجميل وهو الرب سبحانه ولم يرد النص بغير حب الله، والعشق يختلف معناه؟؟.. ثم كيف شاهدنا جمال ربنا سبحانه ولا علم لنا بكنهه إلا بالوصف من الخالق الأعلم بنفسه على جهة الكمال المطلق المنزَّه عن العيوب، وأما مشاهدة مفعوله سبحانه فشيئ آخر، وأما مشاهدة فعله (وهو هنا غير مفعوله) فأمر محال تجاه من لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير.. إن فساد التصوُّر يفسد جمال الفن.. وحقٌّ قوله عن المقصِّرين في حب ربهم وعبادته:

واللي صدق في الحب قليل

وان دام يدوم يوم ولاَّيومين

ثم هذا المعنى القبيح الذي لا مخرج من قبحه إلا بتأويلات الصوفية المخترعة:

واللى هويته اليوم دايم

وصاله دوم

أيليق هذا بحق الرب سبحانه؟.. ولو صح - وهو لا يصح - أَفَيَجُوزُ تزكيةُ النفس بهذه الدعوى؟.. ويصف الرب سبحانه بأن له (طبعٌ)(2) وأنه (لا يعاتب)، وليس هذان المعنيان من معاني الشريعة، بل هي على التوقيف في حق الرب سبحانه.. قال:

لا يعاتب اللي يتوب

ولا في طبعه اللوم

ثم أي تجلِ للرب سبحانه في هذه الدنيا للصالحين؛ فما بالك بمن عبدالله بغير ما شرع، وذلك في قوله:

ولما تجلَّى لي

بالدمع ناجيته

أيُّ دمعٍ ومناجاة وقد صعق موسى كليم الرحمن - سبحان ربنا وتعالى، والصلاة والسلام على الكليم، وعلى نبينا محمد، وعلى جميع أنبياء الله ورسله - لما تجلَّى ربه للجبل فجعله دكّْاً؟.. وهكذا معانٍ أخرى لا أُطيل بها مما يُشوِّه مُحيّا جمال الأدب الفني.. ويا ليت معالي الدكتور لم يورد بقية القصائد الصوفية التي ستحوجني إلى وقفات بميزان العدل والحق اللذين يحبهما ربي سبحانه ويأمر بهما.

قال أبو عبدالرحمن: بميزان الوحشة الدينية فخيرعندي من هذه قصيدة جورج جرداق (هذه ليلتي) وقد مرَّ مما سماه معالي الدكتور إنابة بجرداق مثل ما مرَّ ببيرم التونسي.. هي خير من ناحية الكلمة وإن لم تكن من شعر الإنابة الذي هو ليس إنابة عندي.. إنها عندي بميزان الوحشة خير من قصيدة بيرم التونسي؛ لأن جورج جرداق أبدع القصيدة الغزِلة الجذله وهو لم يتدروش، وقد غنتها الست عام 1968م بلحن محمد عبدالوهاب:

هذه ليلتي وحلمُ حياتي

بين ماضٍ من الزمان وآتٍ

الهوى كلُّه أنتَ والأماني

فاملإ الكأس بالغرام وهات

فهذا أسلوب ومعانٍ لم يعرفها فحول الشعراء أهل الغزل، ثم انتقل إلى وصلة جميلة بدافع اللذة الأبيقورية التي تخاف من تصرم أوقات الأُنْس وهي قليلة وإن طالتْ:

بعد حينٍ يُبدِّل الحب دارا

والعصافير تهجر الأوكارا

ودياراً كانت قديماً دياراً

سترانا كما نراها قفارا

سوف تلهو بنا الحياة وتسخرْ

فتعالى أُحِبُّكَ الآن أكثر

إن الحياة لا تلهو ولا تسخر، وإنما تكون ظرفاً لسلوك البشر، وهذا الشعر قريب من المجون؛ لتصريحه بأنهم لهوا بحياتهم، وسخروا بها، ولكنَّ المعاني غير هذا لم يعرفها الشعر السلفي، ولم يقدر عليها.. ولست أرى إلا أنني أنتقل من جميل إلى أجمل:

والمساءُ الذي تهادى إلينا

ثم أصغى والحب في مُقلتينا

بسؤال عن الهوى وجوابٍ

وحديث يذوب في شفتينا

قد أطال الوقوفَ حين دعاني

ليلمَّ الأشواق من أجفاني

فادنُ مني وخذ إليك حناني

ثم أغمض عينيك حتى تراني

وليكن ليلنا طويلاً طويلاً

فكثير اللقاء كان قليلاً

فالمساء جامعُ العشاقِ، والفجر مُفرِّقهم، وهو مُطِلُّ كالحريق؛ وطالت وقفته لأن ذلك ظرف النجوى والبثِّ مع خَفَرٍ يذوب فيه الحديث بالشَّفَة، وإذا أغمض المساء عينيه فهنالك الحلَكُ، وإنما أراد إغماض عيني حِبِّه لخَفَره، وهناك يراه شُعوراً وقشعريرة، ويراه مفاجأة، وكل ذلك دعاوى في الهوى لإطراب القوم.. ولا يَفتأ الجرداق في توليد معان لم يعرفها السلف في معانيهم المكرَّرة، فهو ينسى العُمْرَ كلَّه في ثانية في قوله:

يا حبيبي طاب الهوى ما علينا

لو حملنا الأيام في راحتينا

صدفةٌ أهدت الوجود إلينا

وأتاحت لقاءنا فالتقينا

هي مصادفة والصدفة الميل، والست تكاد تنطقها (الوُجُدَ) لشيء يخص اللحن، وحَمْلُ الأيام في الراحتين كناية عن نفاسة ساعة اللقاء، وأنها تعدل العُمُرَ في شِرْعة أهل الهوى.. وأعاد نداء المساء حبيب العُشاق (عندما يأتي المساء ونجوم الليل تظهر)؛ فقال:

قد أطال الوقوفَ حين دعاني

ليلمَّ الأشواق من أجفاني

لأن ساعة اللقاء مهما طالت قصيرة؛ ولهذا قال (ليلمَّ الأشواق من أجفاني).. لقد كاد يُخفي إبراهيم ناجي ورومانسياته بهذه الرومانسية القصيرة اللذيذة، ثم التفت بالخطاب إلى حِبِّه - بكسر الحاء -:

فادنُ مني وخذ إليك حناني

ثم أغمض عينيك حتى تراني

فالنداء للمساء، والمعنيُّ ظَرْف المساء وهو حِبِّه بكسر الحاء المهملة، ويريد غفلة المساء بالحلك؛ فهذا معنى (أغمض عينيك)، فهو أجلُّ من التوجيه في علم البلاغة في وحدة التناغم بين المساء ومحبوبه؛ فهو - أي المساء الذي بقيته غلس الفجر - لن يراه إلا في الفجر نفسه عدوِّ العشاق كما قال الشاعر العامي (وبيَّنْ عمود الصبح لا مرحبا به)، وقال ناجي: (وإذا الفجر مطل كالحريق)؛ وللخوف من الفجر قال:

وليكن ليلنا طويلا طويلا

فكثير اللقاء كان قليلاً

وأنتم تعلمون أن شعر الرومانسيين عفيف كالعذريين إذا سلمتْ كلماته من الآفات، وأعود إلى ما بعد المقطع الذي شرعتُ فيه ثم التفتُّ إلى غيره؛ فقال:

في بحارٍ تئنُّ فيها الرياحُ

ضاع فيها المجداف والملاَّحُ

أتظنون أن الليلة كانت عاصفة كرياح البحر التي تُحدث فيه صخباً؟.. كلا!!.. ولكنه لقاء رومانسي عفيف تفجرَّتْ فيه عواطف الطرفين بالبثُّ والشكوى؛ فالسيطرة للغةِ العواطف لا للغة الفصاحة والعقل الذي يُرتِّب المعلومات؛ فهذا معنى ضياع المجداف والملاح.. إنه إبداع سهل لم يطرقه شعرنا السلفي، والرومانسي في معادلة دائمة بين بهجة المساء وكدر الفجر؛ ولهذا قال:

كم أذلَّ الفراقُ منا لقاءً

كلُّ ليلٍ إذا التقينا صباحُ

ثم أقحم بيتاً غزلياً إن كان جميلاً فقد اكتملت الصورة بدونه؛ وذلك قوله:

يا حبيباً قد طال فيه سُهادي

وغريباً مسافراً بفؤادي

ثم لخَّص حال الرومانسيين الاثنين لحظات أنْ ضاع المجداف والملاح؛ فقال هذا المقطع العذري الأنيق لو أنه أعفانا من (خمري)، و(كأسي) بملذة أخرى:

سهرُ الشوقِ في العيون الجميلةْ

حُلُمٌ إثر الهوى أن يقوله

وحديث في الجد إن لم نقله

أوشك الصمت حولنا أن يقوله

قال أبوعبدالرحمن: ما أحلى اللقاءَ على حياء!.

يا حبيبي وأنت خمري وكأسي

ومُنى خاطري ومهجةُ أُنْسي

فيك صمتي وفيك نطقي وهمسي

وغدي في هواك يسبق أمسي

وجورج جرداق لا أظنه عبداً للهوى، ولكنه بلوغ الغاية في الفن بما يُسمِّيه البلاغيون إيغالاً.. ثم شوَّه محيّا الفن - وأنا أُثني على رومانسيته - بهذا المقطع الجميل الذي كدَّره المجون:

هلَّ في ليلتي خيال الندامى

والنؤاسيُّ عانق الخياما

وتساقوا من خاطري الأحلاما

وأحبوا وأسكروا الأياما

قال أبو عبدالرحمن: هذه ليلة عِرْبيدة كما هو المعتاد عند الأغلب إذا كانوا في أحضان النؤاسي على أن الخيام مظلوم؛ لأن خمرته في اصطلاح القوم غير عربدة أبي نواس؛ فلا لقاء بينهما، ولكنَّ خيال الطافحين اتَّخذ هموم العاشقين وبثَّهم كجورج جرداق تصفيقة تُشعل الفتيل كلما قلَّ المعيار من (الباطيَّة) أو (الزِّق)، والجرداق مسبوق بقولٍ عربيدي آخر هو قول الزبيري:

كأسٌ من الخمر لو تُسقى الشُّموسُ به

ترنَّحتْ ومشى التاريخ سكرانا

وختم جورج جرداق أنشودته بقوله:

ربِّ من أين للزمان صِباهُ

إن غدونا وصبحه ومساهُ

لن يرى الحب بعدنا من حَداه

نحن ليل الهوى ونحن ضحاه

مِلْءُ قلبي شوقٌ وَمِلْءُ كياني

هذه ليلتي قف يا زماني

قوله (قف يا زماني) يساوي ما أسلفته من معادلة بين المساء والفجر.. وعبدالهوى المضيِّع لعزائم الصبح والمساء والضحى من همل الصعاليك، ولكنها المبالغة باللسان في التعبير عن الإفعام بالحبِّ لتتألَّق السِّميعة مع جمال النص الفني؛ فيا والدي الدكتور محمد عبده: أمثل هذ التجنيح - إذا سلم من النؤاسي وظلاله - مما يُتاب منه حتى لو كان من السِّميعة شويخ مثلي سقطت أسنانه العليا؟!.. وكل نقد مني لتصفيقة الجرداق قد تتعدى اللمم، ولا تجرح العقيدة كما في قصيدة بيرم، وبهذا الترطيب أرجو أن النفوس استعدت لبقية وقفاتي، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم سبحانه.

والوقفة الثانية: من قال يا والدي الكريم: (إنني أُبرِّئ القصيبي من الغزل)؟.. إنما برَّأته من المجون، وذكرت له سعة الشرع في المباح من الجمال الفني.. والغزل الأرضي غير الماجن خير وأزكى من الافتراء الصوفي في الغزل الإلهي، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

والوقفة الثالثة: أن الشعر في حب الله وحب المصطفى صلى الله عليه وسلم يُؤجر عليه الفنانُ إن شاء الله، والمحرَّم البدعة أو ما أخرج من الملة كما في الحلول والاتحاد ويأتي بيان ذلك.. وقصيدة الدكتور غازي الرائية التي أوردتموها في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم رائعة، ولكنها ليست كعشق ابن عربي وابن الفارض والشهرزوري.. إلخ.. إلخ، ولذلك مزيد بيان.. ومولد الرسول صلى الله عليه وسلم بُشْرى بلا ريب، ولكن لا يعني هذا أن نتَّخذ طقوساً لم يفعلها مثل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ فهل تبلغ محبتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغ محبتهم له؟؛ ولهذا أيضا مزيد بيان.. والله حسيبي وحسبي العالم بنيتي أنني صدَّاع بالحق ولو على نفسي بما أراه الحقَّ حتى يقوم برهان على خلاف ذلك، ومكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مُتَّفق عليه، ولا يترتَّب عليه شيئ أيضا من جهة الشرع إلا اعتقاد بركة المكان إذا عُلم بلا عمل فيه مُخترع.. وواجبنا أدام الله عزكم أن نكون صادقين مع أنفسنا؛ فلا يعلم ربنا منا سبحانه أننا نُظهر ما لا نُبطن؛ فإن كُنّْا ندعو إلى القيام لذكره صلى الله عليه وسلم في الأذان مثلاً - ونحن لا نقوم لذكر الله سبحانه!! -، أو نقيم احتفالاً لحضور روحه الكريمة في بقاع الأرض في لحظة واحدة: فلنصدع بذلك، وَلْنَقُلْ: (هذا معتقدنا، وهذا برهاننا)، ثم يُوازنِ بين ما لديه وبراهين شرع الله.. ولا يجوز لنا أن نخفي شيئاً من فعلنا ومعتقدنا الذي يراه الآخرون غير جائز.. وإن كان ما نظهره هو الحب الشرعي، والبراءة من دعوة غير الله فلنستقم على ذلك، ونعلنه ببراهينه لإخواننا؛ حتى لا يعتقدوا فينا قدوة سوء، ونبطل الشُّبَهَ المخالفة؛ فإن من الإخلاص أن يصدع المسلم بما يعتقده؛ ليتبيَّن لأحبابه الآخرين المخالفين له؛ فيحصل لقاحُ العقول بِمَخْض الحقيقة من براهينها يقيناً أو رجحاناً(3).

قال أبوعبدالرحمن: حضرتُ أكثر من مولد في بقاع الأرض مُتَدَرْوشاً تارةً، وبزِيِّي إن كنت أقدر أن أقول شيئاً تارة؛ فرأيتُ العجبَ العجاب.. إنني والله أريد أن أسمع من معالي الوالد الكريم أو غيره براهين من الشرع تبيح هذه الأنماط من التصوف، وتقاوم البراهين التي هي عند الآخرين بنصوص شرعية قطعية الثبوت والدلالة، وتُقاوم السيرة العملية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وتابعيهم التي هي معروفة بالتواتر؛ لينيرونا فنعانقهم، أو يُعانقونا هم.. وأشهد أن كثيراً من علمائنا ومفكرينا متقاعسون عن نشاط إعلامي علمي فكريِ يحاور هذا الزحف البدعي أو الكفري الذي بدأ ينتشر بعنفٍ في جزيرة العرب؛ فتبرأ ذمتنا، وننشر سعادة البشر، ونأخذ الحق عند من وجدناه ذا حق، ونقيم الحجة على من أصرَّ على العناد واتباع الموروث العامي التاريخي الذي صنعه الحديث الموضوع، والمنامات، والحكايات، واعتقاد الولاية لمن أحواله غير شرعية.. وكل ذلك كان بمقابل المقاومة للتواتر والقطعي، واختراع معانٍ ليست من مفهوم اللغة أو الشرع.

والوقفة الرابعة: أن معالي الدكتور - حفظه الله-، ولقاه الروح والريحان في دنياه وآخرته - مُصِرٌّ على أن ابنه متجنِّ عليه، ومناصر للقصيبي بلا حق.. وما كان هذا هدفي، وإنما هو مناكفة لطليعتين في إطار الحب بعد أن اضمحلت مناكفتي وتفجيري للينابيع الراكدة، ولا أقدر على هذا في إطار الحب إلا إذا كان المناكَف (بصيغة اسم المفعول) في سويداء قلبي.. ومن مكرور القول التأكيد بأنني أغبط الدكتور القصيبي على تدفُّقه الغزلي، ولا أنفي عنه هذه الصفة؛ وإنما أُبرِّؤه من المجون.. ومن المكرور أيضا أن مصارحتي لمشايخي الذين أنا على منهجهم وإن غضبوا على مستوى مصارحتي للطرف الآخر؛ بدليل ميزان العدل الذي أجريته مع أحب العلماء لدي كالإمام ابن حزم وابن تيمية وابن قيم الجوزية رحمهم الله تعالى؛ مما سيأتي إن شاء الله.

والوقفة الخامسة: لا غضاضة على معالي الوالد الكريم إذا جرتني المناسبة إلى السبح مع الإمام ابن حزم في هذا الموضوع؛ لأنه زيادة خير وبركة وتذكير وتزكية أو نقد لمناهج فنية عند بعض علمائنا رحمهم الله تعالى.

والوقفة السادسة: أنني على اتفاق مع والدي الكريم معالي الدكتور فيما سبقني إليه من دفاع عن حرمة مسلم كالدكتور غازي؛ فذلك فضل من الله.

والوقفة السابعة: قول الله سبحانه وتعالى: (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) (سورة الشعراء/ 227) إلى آخر الآية الكريمة ليس استثناء من قول الشعراء مالا يفعلون - وهو ما يسميه النقاد الصدق الفني، وليس الصدق الواقعي -؛ فهذه حال أكثر أهل الشعر المباح في السيرة العملية، وإنما هو استثناء من الغواية، والدليل على ذلك لامية كعب بن زهير رضي الله عنه التي سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومطلعها الغزلي ليس صدقاً واقعياً؛ وإنما هو على سنة العرب في تقديم التغزُّل؛ لِتَهْيِيْئ النفوس لاشتياق موضوع القصيدة الحقيقي، وعملهم الصالحات وذكرهم الله كثيراً هو المرشِّح لعصمتهم من اتباع الغاوين وإن لم يصدقوا في دعوى تغزُّلٍ، أو صدقوا في دعوى غزلٍ عن حبِ في جوانحهم وَبَرِؤواً في سيرتهم العملية من مواقعة الفاحشة؛ فإذا ضيَّقنا ما منَّ به عليه ربنا من المسامحة لزمنا أن نفسِّق من هذه حالهم من جماهير أجيال المسلمين؛ وإنما المنكر الفحشُ كالمثال الذي ذكرته من سينية الجواهري بوصل الهاء.. وأما شعر الغناء الذي يدعو والدي إلى تركه؛ إذ آن الأوان للتوبة: فأشهد أنه دعوة حق وخير صادفت مني إنابة صادقة؛ لأنني طهَّرتُ بيتي منذ سنوات من كل أغنية وفيلم، ولكنني أبقيت من الشعر الذي غُنِّي به ما كان مباحاً على المنهج الذي أسلفته، ولم أستبق (القلب يعشق كل جميل) لبيرم التونسي التي طرب لها الدكتور وهي أيضا من شعر الغناء للست.. لم أطرب لها لوحشة دينية كما سلف، وهناك بثٌّ مماثل ولكنه أبلغ رصانة فيما ينيف على مئة سؤال وجهته إلى جريدة المدينة المنورة؛ فأنهيتُ لهم بحمد الله الدفعة الأولى والثانية.

والوقفة الثامنة: أشكر لوالدي الكريم حُبَّه تبادلَ الدعابة والعتاب وإن كان أحمى عليَّ السفود!!.. ومع هذا أُنكر قوله حفظه الله (اللي في القلب في القلب)؛ فليس والله في قلبي إلا المحبة، وليس فيه إلا ما أعلنه لساني نقداً أو تزكية بلا مواربة، وهذه منة من ربي الذي جبلني عليها منذ نشأتي العلمية من كون ظاهري كباطني؛ ولهذا كانت شعرتي عند العلماء سوداء إلى وقت قريب؛ لأنني أعلن ما أعتقده صحيحاً، ثم تراجعت عنه لما رأيته ضلالاً كتعصُّبٍ مني أعمى للإمام ابن حزم- رحمه الله- في صلف الشباب، وكمسألة الغناء.. ومعاليه أيضا ليس عنده إلا الحب وموافقة الظاهر للباطن، والله المستعان.

والوقفة التاسعة: أن والدي معالي الدكتور ظلمني، وقوَّلني ما لم أقل؛ فالله يبيحه ويسامحه؛ فإن حسناته عليَّ تُغَطِّي سهوه في سرعة النقل عني آلافاً مؤلَّفة.. هذا بالنسبة لحقي، وأما حق الله فيمحوه الاستغفار؛ وذلك أنه حفظه الله نسب إلى إدخالي الدكتور غازي القصيبي في رياض الصالحين!!.. والله ما قلتُ هذا ألبتة، وليس في مقالتي كلمة واحدة تدل على هذا، ولا أُدخل في رياض الصالحين (جعلني الله، وإياك، والدكتور غازي، وجميع إخواني المسلمين منهم) أحداً بلا بيِّنة، وكلنا خطَّاء حاطب على نفسه إلا من رحم الله، ولا يُجزم في الدنيا برياض الصالحين إلا لذوي شاهد الحال من العلماء العُبَّاد العاملين المعلِّمين الورعين الذين لا يعبدون الله إلا بما شرع؛ فهؤلاء من الصالحين يقيناً، وأما في الآخرة فلا نحكم لأحد بجنة ولا نار إلا من شهد له الشرع بذلك؛ لأن الله أعلم بسرائر العباد وخواتم أعمالهم، ولكن يشتدُّ رجاؤنا بأنهم من أهل الفلاح، وواجب علينا أن نحبهم وندعو لهم؛ لما في علمنا من مشاهدة أو صحة سماعٍ عن شواهد حالهم؛ وإنما الذي عملته مع الدكتور غازي أنني تأستذتُ عليه، واقترحتُ عليه قراءة رياض الصالحين للإمام النووي على مهلٍ بلا عجلة، ومراجعة معاني ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديث، ومراجعة معاني الآيات التي أوردها، وتكرار مطالعته على مهل لتثبيته في القلب والذاكرة؛ فإنه رحمه الله أحْسنَ الانتقاءَ، ثم يُطَبِّق كل ما صحَّ له بيقين أو رجحان فوراً من فعل الواجب وترك الحرام؛ لأن أوامر الله على الفور والعموم والظاهر حتى يرد ما يصرف ذلك أو بعضه عن الفور والعموم والظاهر؛ ولأن الله أوجب علينا المسارعة إلى فِعْلِ الخيرات، وأما المستحب فنجاهد النفس في العمل به مرات حتى يكون لنا عادة، وهكذا ترك المكروه، ونشكر الله على المباح فنأخذ منه بقدر ما نتقوَّى به على عزائم الأمور.

الوقفة العاشرة حفظكم الله: أنني منذ مدة أقرأ في مؤلفات معالي الدكتور الخويطر في لحيظات من نشاطي، وأسجل ملاحظاتي، وقد أحميتُ السَّفُّود - وهو من هو في إفضاله عليَّ - مع الاعتراف بحسناته، وحسب رؤيتي الآن أن حسناته هي الأكثر، ولكن لا بد من السَّفُّود مناكفةً كمناكفة معاليكم لمعالي الدكتور القصيبي؛ فعسى أن أجد عنده ما يزيد حرارة في السفود؟!.. وهكذا لن يسلم من حرارة السفود الدكتور القصيبي في كتابي عنه؛ لأن أرواحنا رياضية، واختلاف الرأي لا يُفسد للود قضية كما قال أحمد شوقي رحمه الله.. وهذا محمد بن داود الظاهري حمي الوطيس بينه وبين فقيه الشافعية أبي العباس ابن سريج رحمهم الله تعالى؛ فلما مات محمد بن داود وقف ابن سريج على قبره، وقال: (لا آسى إلا على لسان أكله هذا التراب!!).

والوقفة الحادية عشرة: لم أتقدَّم لمعالي الدكتور محمد عبده إلا بسجع الحمام، ولم أُحْم له سَفُّوداً إلا أن ترد مناسبة فأناكفه كما ناكف الدكتور غازياً؛ فمرحباً بكل مداخلة لمعاليه، ولكنني ألتمس صفحه عن غَضبة يكون فيها الحبل على الجرار.

(1)قال أبوعبدالرحمن: عض الريام مثل عض السخلة لأمها ولا أسنان لها وهي ترضعها وتعابثها.

(2) قال أبوعبدالرحمن: الضمُّ على الحكاية.

(3) قال أبوعبدالرحمن: انظر على سبيل المثال مقالات تعصر القلب عن التصوف لعالم مغربي صدَّاع بالحق على قلة المناصر نشرت تباعاً في مجلة المغرب الجديد ج12 في الافتتاحية، وفي 15-3- 1355هـ، وج13 س3 ص54 في ربيع الآخر عام 1355هـ، وج14 ص94 ربيع الآخر عام 1355هـ، وج14 ص89، وعدد 11 س 2 عام 1355هـ ص 86 - 86.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد