يخطئ من يظن أن الفكر التكفيري المتشدد نبتة (شيطانية) ليس لها جذور في مجتمعنا القائم على الوسطية والتسامح، وأنه فكر دخيل جاء به أناس لا يريدون لهذه البلاد وأهلها خيراً أو استقراراً، والذي يقرأ تاريخ هذه الحركات (التكفيرية) خلال الفترة الزمنية القريبة يلحظ خلاف ذلك. فجماعة (الإخوان) الذين قاتلهم الملك عبدالعزيز -رحمه الله- كانوا يعتنقون فكراً تكفيرياً بالغ التطرف، وجماعة (جهيمان) الذين استولوا وتحصنوا بالحرم الشريف قبل ربع قرن.. كانت تعتنق فكراً تكفيرياً ممعناً في غلوه، وها نحن نرى اليوم (التكفيريين) الجدد يطلون علينا بسحناتهم السوداء، ويعلنون تحديهم للمجتمع، والقيام بأعمال القتل والتدمير وإزهاق الأرواح البريئة دون وازع من ضمير أو دين أو خلق.. فهم نتاج فكر منحرف يسوغ لهم اقتراف ذلك، بل ويهنئ كل (شيطان) يفجر نفسه ويعده بالجنة (وحور العين) اللواتي ينتظرنه عند مدخلها!
إذن فمن الخطأ أن نظن أن الفكر التكفيري المتشدد (صناعة) خارجية.. بل هو نتاج ثقافة داخلية وخارجية تقوم على أدلجة الدين بما يتوافق مع أهدافهم الشريرة، لكن الخلاف هنا هو في حجم انتشار هذا الاتجاه في بلادنا. فالمعروف أن هذه النبتة (الشيطانية) قد نبتت بالخطأ في بيئة غير بيئتها الأصلية، ولولا أن قيض (الشيطان) لها بعض غلاة (الإخوان) الذين هربوا من بلادهم خلال فترة الستينيات والتجأوا إلينا لما عاشت هذه النبتة لدينا.. غير أن الأساتذة الإخوانيين الذين احتضناهم، وفتحنا قلوبنا وجامعاتنا لهم.. لم يشأوا أن يعلموا ناشئتنا ما يحتاجونه من علوم شرعية تنفعهم في دنياهم وآخرتهم.. بل علموهم كيف يكفرون الحكام والمجتمع ويخرجون عليهم.
لقد حمل أولئك الأساتذة فكر (سيد قطب) و(عمر عبدالرحمن) وغيرهما من أقطاب الفكر المتشدد ومن زعماء مدرسة (التكفير والهجرة) واللافت أن هؤلاء الأساتذة الذين بثوا هذا الفكر في جامعاتنا ومدارسنا، وأصبح لهم تلامذة ومريدين ركزوا تعليم طلابهم كل ما يتعلق بتكفير الحكام والناس، وأغفلوا الجانب الآخر من المعادلة وهي (الهجرة)، فلم يعلموهم كيف يهاجرون من بلادنا -باعتبارها بلاد شرك كما يزعمون- إلى بلاد أخرى تتوافق مع فكرهم ولو فعلوا ذلك لكفونا شرهم وشرارهم!
ولما رأينا شبابنا الغر والذين لم يتجاوز بعضهم العشرين ربيعاً، وهم يقودون السيارات المفخخة، و(يتمنطقون) بالأحزمة الناسفة.. أو يفسدون المناشط الثقافية في الأندية الأدبية والجامعات. شبابنا المشاركون في تلك المعارك بدءاً بأفغانستان والشيشان ومروراً بالبوسنة والعراق وانتهاء ب(النهر البارد) ضحايا حقيقيون لرؤوس كبيرة تدفعهم إلى ثقافة الموت والدمار، ليصبحوا بعد ذلك (انتحاريين) موعدين بالجنة وحور العين كما قيل لهم.
التأثير الفكري لا يمكن أن يلغى بمجرد أن يطل رمزا من رموزهم ليعلن تراجعه عن بعض أقواله.. فقد سرى وتغلغل كما تسري النار في الهشيم.
المطلوب مراجعة فكرية عبر خطة مدروسة تساهم فيها كل الأطراف المعنية. والمطلوب أيضاً أن نكون صرحاء ونسمي الأشياء بأسمائها دون مواربة أو تبرير.. وبغيرها يبقى عملنا الحالي في مواجهة هذا الفكر قاصراً.. وبالله التوفيق.
alassery@hotmail.com