عبدالحميد العمري
تقف السوق المالية المحلية في الوقت الراهن - في وقت لن يطول مداه كثيراً - فوق هضبة من التقييم؛ تتفوق على التقييم العادل لأثمان أصولها المدرجة في أروقتها بنحو 18.3 في المائة، نجد في ضوئه حسب إغلاق الأربعاء الماضي 13 مايو 2009 نحو 88 شركة فوق سعرها العادل، فيما ترزح التقييمات السوقية لنحو 39 شركة تحت تقييماتها العادلة.
لا غرابة في ذلك قياساً على طبيعة الأسواق المالية التي يغلب عليها التأثر الكبير بالعديد من المعطيات والمؤثرات الخارجة عن نطاق الأداء الأساسي للشركات المساهمة، هذا بالطبع في الإطار العام لرؤية السوق دون الخوض في تفاصيلها، أمّا إذا أمعنت النظر في حالات بعض الشركات فستجد دون شكّ شذوذاً مقلقاً إلى حدٍّ بعيد؛ كأن تجد السعر السوقي لسهم شركة يغرد معدل نمو أرباحها خارج السرب يقبع أسفل من قيمته العادلة بنسبة قد تتجاوز 49 في المائة! وأخرى تآكلت حقوق مساهميها بسبب خسائرها المتتالية حتى أوشكت على السقوط في فخ الإيقاف عن التداول؛ نُفاجأ بأن سعرها في السوق مقارنةً بقيمته الحقيقية يتجاوز نسبة 2513 في المائة!! وكما ذكرت أعلاه لدينا 39 شركة مهضومة الجانب في مقدمتها الشركة الأولى آنفاً، فيما يحتشد أمامنا نحو 88 شركة يقود لواءها الشركة الثانية آنفاً الآيلة على الإفلاس.
تأتي أهمية الأخذ بعين الاعتبار الجوانب المتعلقة بأساسيات السوق المالية، من خلال التركيز على نتائج العمليات الإنتاجية أو الخدماتية للشركات المدرجة للتداول من عدّة اعتبارات لعل من أهمها:
أولاً: العمل على خفض درجات المخاطر في السوق، التي لا يتعدّى انكشاف استثمارات المتعاملين فيها على انهيارات مروعة سوى أحد نتائجها الوخيمة.
ثانياً: العمل على توظيف السوق المالية بصورة تتحقق معها الأهداف الفعلية من وجودها؛ يأتي في مقدمتها ضرورة تعبئة المدخرات الوطنية في السوق، والتخصيص الكفء للموارد المالية، وتمويل الاستثمارات، وتوفير البيئة الملائمة التي تساعد على رفع كفاءة العلاقة بين قوى العرض والطلب بصيغة تخدم كافّة الأطراف ذات العلاقة مع السوق.
كل هذا ستصبُّ نتائجه الإيجابية في مصلحة الاقتصاد الكلي، وبالطبع فإن إيجابيتها ستتدفق تباعاً لتمتد إلى تحسين ورفع مستويات التنمية الشاملة، ورفع الدخل الحقيقي للأفراد، هذا عدا أنه سيوفر جداراً صلباً يحمي مقدرات السوق والاقتصاد على حدّ سواء.
ولنا فيما مضى منذ ضحى 26 فبراير 2006م ولا تزال ذيوله ممتدة إلى اليوم عبرة لمن ألقى السمع وهو شهيد.
ثالثاً: وهو ما ينصبُّ في عمق الهدف الرئيس من هذا التقرير؛ ضرورة العمل المشترك من جانب كافّة الأطراف ذات العلاقة بالسوق على رفع كفاءة السوق المالية المحلية، وزيادة درجات تنظيمها، بصورة تكفل للسوق استجابةً أكبر وأوثق لأسعار الأصول المتداولة للمعلومات والبيانات الصادرة فيها، لعل من أهم تلك المعلومات؛ نتائج الأداء المالي للشركات المساهمة المدرجة، إضافة إلى التأثير المباشر لأي تطورات على مستوى بقية المتغيرات الاقتصادية الكلية - كالتغيرات في معدلات الفائدة وأسعار الصرف ومعدل التضخم ومستوى السيولة المتوافرة في الاقتصاد - مضافاً إليها مستويات التوظيف ومعدل البطالة وتوقعات النمو بالنسبة لأسواق السلع والخدمات، خاصةً تلك التي تعمل الشركات المساهمة داخل أطرها، وتركيزاً على درجة تأثرها بالحصص السوقية ومستوى الطلب المحلي والخارجي على منتجاتها، وقدرة تلك الشركات المساهمة على التوسع وزيادة إيراداتها، إلى آخر التفاصيل الأساسية المعروفة لدى الأغلبية منّا والتي يصعب حصرها هنا.
ليست مبالغة ولا تهويلاً أن يجاهد منّا البعض لأجل إعادة الأمور إلى نصابها المستحق، والحديث هنا ينصبُّ على واقع سوقنا المالية المكتظ بالعديد من الإشكالات العالية الخطورة، وقد جرّبنا أو قل ذقنا وذاق ملايين المتعاملين مرارة الخسائر الرأسمالية التراكمية الفادحة التي فاقت مساء التاسع من مارس 2009م سقف 2.4 تريليون ريال! وعليه، أعتقد أنه من الواجب علينا جميعاً دون استثناء استحضار ما تقدّم إيضاحه أعلاه بصورة أكثر تركيز في صلب كافّة أية قرارات بالشراء أو البيع في السوق، وأن نعلم يقيناً أن انحرافاً بسيطاً بدأ اليوم قد لا تتجاوز قيمته أو تكلفته الريال الواحد، قد تتفاقم كوارثه المفجعة لاحقاً ولو بعد حين إلى أرقام خيالية تنتمي إلى خانة التريليونات! أعتقد أن الأمر أو هذه القضية قد ارتفعت درجات مخاطرها في وقتنا الراهن بصورة تتطلب أخذ أقصى درجات الحيطة والحذر، خاصةً وأن معدل نمو بعض مؤشرات السوق والشركات قد تجاوزت سقف المئة في المئة، في مقابل خسائر فادحة أهلكت أغلب قوى ومقدرات الشركة، ما أوصلها إلى مقصلة الإفلاس.
إن السوق تقف على حد الربع الأول من العام الجاري بصافي أرباح هو الأقل منذ الربع الأول من عام 2004م، لم تتجاوز 10.3 مليارات ريال - باستبعاد الخسائر الفادحة التي تجرعتها السوق مع نهاية الربع الرابع من عام 2008م - رغم أن الشركات المدرجة وصلت إلى 127 شركة، مقارنةً بنحو 70 شركة مدرجة فقط جنت أرباحاً مقاربة! نعم نتج ذلك التراجع على أعقاب الأزمة المالية العالمية وما تبعها من آثار مؤلمة على الاقتصادات والأسواق، غير أن مفارقات وتذبذبات الأسعار والمؤشرات اللاحقة كشفت عن حالة مخيفة من التشوه والسوء! بدأت مبكراً مع منتصف سبتمبر 2008م إلى نهاية العام، أدّت إلى إسقاط السوق بنحو 36 في المئة بدعوى تداعيات الأزمة المالية العالمية، على الرغم من كون اقتصادنا وأغلب شركاته سوقه المالية يتمركزان في المنطقة الأقل تأثراً، فيما تراوحت خسائر الاقتصادات والأسواق التي تحتضن الأزمة بصورتها الحقيقية بين 24.6 في المائة (Dow Jones) كحدّ أكبر من الخسائر، وكحدّ أدنى لم تتجاوز 9.6 في المئة (FTSE 100).
وكما هو واقع الحال؛ لم يفرّق الهبوط الباهظ حينئذ بين شركة قد تكون رابحة أو أخرى، فيما نواجه في الوقت الراهن نمطاً آخر - بالغ الغرابة - من أنماط التشوه الهيكلي والسلوكي التي تعاني منهما السوق منذ أمد بعيد؛ شهدنا معه أسهم شركات خاسرة يفوق الأداء السعري لسهمها المتداول أكثر من عشرة أضعاف شركات أخرى نمت أرباحها ربعياً وسنوياً.
لست أبالغ هنا إن أشرت إلى أن أغلب المتعاملين تتوافر لديهم المعرفة بصورة كاملة حول التباينات في أرباح أو خسائر أي من تلك الشركات، ولكن ما نفع تلك المعرفة وما يجري على سطح تعاملات السوق إن تمَّ إسقاطها عملياً من محددات اتخاذ القرار الاستثماري لدى أحدنا؟! وما يُخشى منه أن تتفاقم تلك الانحرافات إلى مستوى تكون فيه خارجه عن السيطرة لا سمح الله.
وللحديث بقية..
* عضو جمعية الاقتصاد السعودية