أدخل نظام الكفالة الحالي المجتمع السعودي في دوامة قد يصعب الخروج منها، فأرقام العمالة تجاوز المعدلات الطبيعية في المجتمعات الحديثة، وأصبح هناك بطالة بين العمالة الوافدة، وربما ساهمت في انتشار الجريمة، فالعامل مطالب أحياناً بدخل مادي ثابت نظير تغطية الكفيل له في العمل بحرية داخل الوطن، وقاد تطوُّر علاقة العمل المهني غير المقنّن تحت عباءة الكفيل إلى تأسيس مؤسسات تعمل فقط على تحصيل فوائدها المالية من العمالة التي تستفيد من غطائها القانوني المزعوم، وبعبارة أخرى أصبحت هناك تجارة رابحة من استقدام العمال ثم إطلاقهم في السوق المحلية للعمل بلا قيود زمنية أو مهنية، ساعد في ذلك فقر العمالة الوطنية في وقت مضى، ورفضها للعمل في بعض المهن..
لكن الأمر تغيّر الآن، وكثير من الشباب السعودي يبحث عن العمل في السوق، لكنهم لا يستطيعون منافسة العمالة الوافدة، ومثال ذلك العمل في سيارات الأجرة، والتي تحتكرها مؤسسات توظف عمالة هندية وبنغلادشية مقابل دخل مادي شهري محدد، ولهذا السبب تعمل هذه العمالة ساعات طويلة في النهار والليل، من أجل تحصيل ربح مادي يضمن لهم أولاً تسديد حق الكفيل اليومي..
كذلك ينطبق ذلك على الأسواق التي تحتضن معظم العمالة الوافدة، ويعمل أغلبها من خلال ضمان حق الكفيل أولاً، مما يجعلهم يعملون إلى ساعات متأخرة لغرض تحقيق فائض في الأرباح، وذلك من أجل استمرار عملهم التجاري في السوق، وتأتي صعوبة العامل السعودي في منافستهم في العمل لساعات متأخرة في الليل، وهو ما يشكِّل عامل طرد للسعوديين من الأسواق بمختلف أنواعها..
كذلك أدى ذلك إلى تفريغ الحياة الاجتماعية في المدينة، فامتداد ساعات العمل إلى وقت متأخر في الليل لا يحرم السعوديين فقط من فرصة العمل ومنافسة العمالة الوافدة في السوق، ولكن أيضاً يسرق منهم الحياة الاجتماعية من المدينة، ويحوّلها إلى سوق تجاري يعمل على مدار الساعة، أجواؤه ضوضاء وميادينه زحمة سير لا تتوقف، ولا تعترف بأهمية ضرورة الاسترخاء في المساء...
في العالم المتحضر تتوقف عادة ساعات العمل في الأسواق في المساء، لتهدأ الحركة وتبدأ رحلة العودة إلى المنزل مبكراً، وذلك إما لقضاء ساعة أطول مع العائلة أو الخروج إلى مطعم أو مقهى للاستمتاع، بعيداً عن زحمة التسوق في شوارع المدينة وأسواقها .. لكن مدينة الرياض وغيرها من مدن وقرى المملكة، لا يهنأ سكانها بإجازة يومية من تعب الركض في الأسواق التجارية..، فالمحلات التجارية تفتح إلى ساعة متأخره، والسكان أدمنوا ثقافة الاستهلاك، ولم يدركوا أنّ حياتهم تحتاج إلى فترة توقف من الركض والصرف اليومي..
كذلك كان من أغراض تقنين العمل التجاري في الأسواق إعطاء فرصة للمواطن في العمل ضمن عدد ساعات محددة، كما حدث في بريطانيا، فالإنجليزي لم يستطع مجاراة المغترب الهندي في عدد ساعات العمل اليومية في الأسواق، وذلك لأسباب تتعلّق بتدني مستويات الأمن المالي عند الهندي، وتلبية لغرض هجرته من بلاده، والحصول على المال الوفير في أقصر فترة زمنية، وهو ما يجعل مهمة المواطن مستحيلة في القدرة على منافسة الوافد المؤقّت في عدد ساعات العمل اليومي..
لذلك أجد أنّ تقنين ساعات العمل في الأسواق أمر ضروري وغاية في الأهمية، ليس فقط من أجل إضفاء ساعات هادئة في المساء على أجواء المدينة، ولكن من أجل إعطاء المواطنين فرصة لمنافسة العمالة الأجنبية في الأسواق التجارية، فالوضع الحالي غير سليم، ويعمل من أجل أجواء مهيأة فقط لأغراض العمالة المهاجرة إلى الداخل، من أجل العمل فقط وتحصيل المال بدون التزامات اجتماعية .. ولو تم تحديد نهاية العمل في الأسواق التجارية إلى موعد أذان العشاء، سيكون بالتأكيد تأثيره إيجابياً على فرص عمل المواطن في الأسواق التجارية .. وكذلك سيمنح المدينة فرصاً للاسترخاء وأخذ قسط من الراحة من حركة المرور الصاخبة التي تستمر في الوقت الحاضر إلى ساعات متأخرة من الليل..
مدينة الرياض مصابة بداء جنون العمل التجاري إلى ساعات متأخرة، مما أدى إلى أن تسكن فيها الضوضاء، وأن يكون لها شبكة علاقات صاخبة لا تكترث بفرص عمل أبناء الرياض أو صحتهم البيئية والاجتماعية .. آخر الأبحاث التي أجريت في المملكة العربية السعودية تشير إلى أنّ مستوى الضوضاء في مدينة الرياض بلغ 80 إلى 92 ديسبل، ويزداد معدل الضوضاء سنوياً بمعدل واحد ديسبل، وتعتبر نسبة ضوضاء عالية، والسبب هو حركة السيارات ووسائل النقل الأخرى، وساعات العمل غير المقننة للأسواق التجارية..