البدايات تحدد المسار في كثير من الأحيان وبقوة الانطلاق يتحدد المدى.. لكن هذا ليس على العموم فقد كان السقوط يوماً سبباً في اختراق الفضاء..
من هنا يحق لنا أن نسأل: كيف تُبنى مواقفنا؟ وكيف تستمر؟ وهل تستمد قوتها من خام بنائها؟ أم مما بنيت له؟
هذه الأسئلة أجيبكم عليها بعد أن تتذوقوا هذه القهوة المالحة في ذلك المقهى الذي التقى فيه أحدهم بتلك الفتاة التي أسرت لبه وقلبه فاضطربت كل حركاته وتصرفاته ولم يجد نفسه إلا داعياً إياها على فنجان قهوة..
قبلت دعوته فنادى مقدم الطلبات وسألها عما تشرب واختارت قهوتها واختار هو أيضاً قهوته، وكانت الجلسة مليئة بالتوتر والاضطراب فالخجل يملؤه والاستغراب يغمرها، وفجأة نادى مقدم الطلبات، وقال له: بعض الملح لقهوتي لو سمحت فنظرت إليه بدهشة..
وشعر بمزيد من الخجل لنظراتها ووضع الملح في قهوته وبدأ يرتشفها مع سؤالها المندهش: لم تضع الملح على قهوتك؟ أكمل ارتشاف قهوته وبدأ يحكي لها: عندما كنت صغيراً عشت طفولتي بالقرب من البحر وكنت أحبه بكل ما فيه بعمقه بامتداده بملوحته فهناك عشت أجمل أيام عمري وسط حنان أم وعطف أب ثم ترقرقت دموعه في عينيه، وقال: من عاش بعيداً عن وطنه غريباً عنه استدعاه إلى ذاكرته بكل ما يملك وهانذا أستدعيه في قهوتي، ثم بدأت هي بالحديث عن طفولتها وعائلتها واستمتاعها بكل تفاصيل حياتها وكان حديثاً ماتعاً أزال كل التوتر واستدعى مكانه الانسجام والود والشوق وتكررت لقاءاتهما وهو يرتشف تلك القهوة المالحة في كل مرة وربما شاركته إياها أحياناً ومرت الأيام بذكرياتها وورديتها وتزوجا وكانت حياة حافلة بالود عامرة بالحب وهي تستمتع بصنع قهوة زوجها الغريبة تلك القهوة المالحة التي تعيده إلى طفولته وذكرياته وبعد عمر طويل جمعها مات الرجل وترك رسالة كتب فيها: (حبيبتي سامحيني...
على كذبة حياتي التي لم تفارقني إلى آخر أيامي معك..
سامحيني على قهوتي المالحة وقصتها الكاذبة!!! أتذكرين أول لقاء بيننا؟ لقد كنت مضطرباً حينها لحد الخلط بين السكر والملح..
كنت أريد لقهوتي السكر فطلبت الملح..
وخجلت من أن أبين خطئي..
كنت أريد إخبارك الحقيقة بعد ذلك لكني خشيت أن تنظري لي بأني أكذب من البداية..
أنا لا أحب القهوة المالحة ولا أستسيغ طعمها..
لكن وجودي معك طيلة هذا العمر يطغى على كل شيء ويجعلني أرضى لأجلك بأي شيء.. لو أن لي حياة أخرى لعشتها معك حتى لو اضطررت لشرب القهوة المالحة مرة أخرى..
ملأت عيونها الدموع وهي تقرأ هذا كما ملأ الحب قلبها لزوجها الراحل...
سألها أحدهم ذات يوم عن طعم القهوة المالحة فقالت: إنها حلوة...
* كانت هذه القصة من تلك القصص الرائعة التي قرأتها ذات يوم..
والآن أظن أن إجابتي عن الأسئلة السابقة في بداية هذا المقال تعد من نافلة القول..
بريطانيا
almdwah@hotmail. com