يبدو أن السوق رسم كل علامات الذهول وطبع المفاجأة على عموم المتداولين بارتفاعاته الكبيرة فبعد استقرار دام قرابة ستة أشهر بدأ السوق رحلة الارتفاع التصحيحي منذ مارس الماضي عندما حقق أقل نقطة وصلها طيلة فترة مساره الأفقي فما يحدث حقيقة هو تصحيح للأسعار بعد انخفاضها الشديد طيلة عام خسر فيها السوق أكثر من 70 بالمئة وفقد قرابة 800 مليار ريال من قيمته ولكن الثقة التي مسحت من المتداولين تبدو الخسارة الأكبر لأن الخوف يزرع بسرعة والثقة تتبخر معه ولكن عودتها تتطلب وقتاً لأن المخاوف لا تتبدد بالسرعة نفسها التي تفرض نفسها في الأسواق وإذا كان الانهيار الذي أصاب كل أسواق العالم ومن بينها السوق السعودي قد افقدته 56 بالمئة بنهاية العام 2008 م فإنها بالوقت نفسه أوجدت الأرضية الملائمة لعودة السيولة من جديد له، فالمبالغة بتصحيح الأسعار تبعاً لتقديرات حجم الأزمة الاقتصادية العالمية كان لا بد أن تكون ردة الفعل الطبيعية لها العودة للارتفاع بقوة والذي هو أيضاً يعد تصحيحاً، فهذه الكلمة ارتبطت بأذهان الغالبية على أنها ملازمة للانخفاضات السعرية فقط، وهذا غير صحيح لأنها أيضاً مرتبطة بعودة الأسعار للمنطقية في أولى مراحل العودة للارتفاع حتى تقترب من القيم العادلة للسوق ولم تكن الأسواق تحتاج إلى أكثر من الاستقرار لفترة زمنية لا تقل عن ثلاثة أشهر حتى تبدأ السيولة التي هربت بمراحل الانخفاض الكبير بالتفكير للعودة مجدداً للسوق ولعل قمة العشرين الأولى بواشنطن في نوفمبر من عام 2008 ركزت على ضرورة استقرار الأسواق لأنه العامل الرئيس لعودة الروح لها فعند توقف الهبوط والاتزان بالحركة واتخاذها لمسار أفقي يبدأ المستثمرون ومديرو المحافظ والصناديق بتقييم الأوضاع عامة والبحث عن الفرص التي خلفتها الأزمة وفي تلك المراحل السابقة للاستقرار كان الصراع على السيولة هو عنوان حركة الأسواق وبعد الاستقرار الجيد بكل المقاييس عاد الصراع على الأصول من جديد لنجد ضغطاً محكماً على حركة الأسواق وانخفاضاً هائلاً بمستويات السيولة فقد بلغ متوسط السيولة لقرابة 6 أشهر 3.5 مليارات ريال يومياً إلى درجة أن عموم المتداولين شعروا أن السيولة تبخرت وأنه لا أمل بعودتها من جديد إلى سابق عهدها على الرغم مما يشاهدونه من انخفاض في قيمة الأصول المالية الموجودة ولم يعد هناك بنظرهم أي شركة مغرية للاستثمار وكانت علامات القاع ظاهرة من خلال الاستقرار الكبير الذي حدث، بالإضافة إلى عوامل مالية أساسية كانت بارزة بقوة من خلال ارتفاع العائد على السعر السوقي الذي فاق 10 بالمئة ببعض الشركات وبلغ أكثر من 6 بالمئة على كل مكونات السوق قياساً بأسعار الفائدة التي تقبع تحت واحد بالمئة حالياً مما يعني أن إغراء الأسواق وجاذبيتها كانت لها الكفة الأرجح، بالإضافة إلى انخفاض مكررات الأرباح دون 10 مرات على السوق ككل مع تراجع معدلات التضخم مما يعني فائدة أكبر تتحقق من الأسواق بخلاف الحلول العالمية لإنقاذ الاقتصاد من براثن الركود أو الكساد بأسرع وقت ممكن والتدخل المبكر لتحقيق ذلك من خلال حلول فردية قامت بها الدول الكبرى ومن ثم التحرك الجماعي من خلال دول العشرين وكذلك السبعة الكبار وغيره من الحراك الدولي غير المسبوق، فكان من الطبيعي أن تعود الأسواق بكل العالم لحيويتها بعد انهاكها ببيوع لم يسبق لها مثيل وعزوف السيولة عنها لفترة متوسطة نسبياً، وإذا تبحرنا بواحد من أهم القرارات المتخذة بقمة لندن الأخيرة فهو إلغاء السرية المصرفية وكذلك التضييق على دول الملاذات الضريبية مما يعني خروج سيولة هائلة باتجاه الاقتصاد العالمي بشقيه الحقيقي والورقي، وهذا يعد من الأمور البارزة التي قد تؤثر في واقع الأسواق مستقبلاً، فالأموال الموجودة في سويسرا وحدها تُقدر بحدود 2.6 تريليون دولار وخروج عشرة بالمئة منها للأسواق المالية كفيل بإحداث قفزة كبيرة، فمع انخفاض عائد الفائدة والمخاوف من أوضاع البنوك بالغرب عموماً كان لا بد من أن تتحرك هذه السيولة لأماكن أكثر دفئاً وقد وجدت بالأسواق المالية شيئاً من ذلك في ظل تراجع الأسعار بشكل كبير جداً ومبالغ فيه وهذا ما جعل ردة فعل الأسواق بعد ظهور نتائج الربع الأول وربطها بالتوقعات المستقبلية المتفائلة للنتائج المالية المتوقعة بفعل الانفاق العالمي الكبير تكون قوية باتجاهها الصاعد لتربك الجميع وتزيد من حدة المخاوف لديهم بدخول الأسواق فكان الغالبية مضاربين سريعي الحركة ولكن ماحققته الأسواق من ارتفاعات وانعكاس ذلك على أسعار الشركات يبدو أنه صدم الجميع وجعلهم يحتارون بقراراتهم المستقبلية وهذا ما يجعل الانعكاس الإيجابي للجميع محدوداً بينما المستفيد من استطاع اختيار استثماره والبقاء فيه حتى يتحقق الهدف الذي يطمح له فتبني الاستراتيجية بأي استثمار هو القاعدة الصحيحة ليس فقط للتعويض بل لتحقيق المكاسب أيضاً ويبقى سؤال المليون ماذا بعد كل هذا وللإجابة عنه يجب أن ننظر إلى العوامل التي هبطت بالأسواق هل انتهت وهل العوامل الدافعة ما زالت موجودة، فالمؤثرات السلبية انكشفت منذ فترة بعيدة وبدا وصف العلاج المناسب لها وظهور العوامل الإيجابية هو نتيجة طبيعية للإجراءات التي اتخذت وإذا افترضنا أن هذه الإيجابيات هي العامل المسيطر الآن، فحتما سيكون الاتجاه الصاعد للأسواق قائماً طيلة هذا العام مع الانتباه إلى أن الأزمة لم تنتهِ ولم تقتلع آثارها بشكل كامل ولذلك ما ستفصح عنه النتائج اللاحقة سواء المالية منها أو الإجرائية التي ستطبع أثرها في الاقتصاد العالمي والمحلي هي المحك للحكم على أننا تعدينا الأزمة وهذا يحتاج إلى وقت ليس بالقصير، فعلى الأقل يجب المتابعة الدقيقة لكل ذلك على مدار العام الحالي بل وحتى النصف الأول من 2010 ولكن هذا لا يعني أن أسعار العديد من الشركات وصلت إلى مستويات أغرت المستثمرين أصحاب النفس الطويل للدخول والتمركز بها ولا يعني تخليهم عنها بسهولة، فالفرص قد لا تأتي مرتين وسيبقى الخوف قائماً بنفوس المتداولين إلى وقت ليس بالقصير فأي هزة بسيطة قد تحدث خلال هذا العام سواء كانت لجني الأرباح أو لتصحيح الموجات الصاعدة كالتي نعيشها حالياً ستؤدي دوراً سلبياً على نفسية المتداول ولذلك يجب التيقن أن الأمور لن تعود لوضعها الطبيعي بوقت قصير خصوصاً مع بقاء عنصر المضاربات الحادة قائماً بأسلوب لا يتماشى مع الأوضاع الحالية للأسواق التي بالكاد تحاول استعادة عافيتها من أزمة لم يسبق لها مثيل لا بالحجم ولا بأسلوب المواجهة العالمية لها على كل المستويات.