يقول باولو كويليو في رائعته: ساحرة بورتبيللو: الكل يبحث عن المعلم الأفضل. ومع أن تعاليم المعلمين قد تكون إلهية المضمون فإنهم جميعا بشر. وهذا أمر يصعب على الناس تقبله. لا تخلط بين المعلم والدرس، بين الطقس الديني والانتشاء، بين ناقل الرمز والرمز ذاته. إن التقليد يرتبط بتلاقينا مع قوى الحياة وليس مع الناس الذين يحدثونها، لكننا ضعفاء، نسأل الأم أن ترسل لنا مرشدين، بيد أن كل ما تبعث به هو الإشارات إلى الدرب التي علينا أن نسيرها.
مثيرون للشفقة أولئك الذين يبحثون عن الرعاة بدل التوق إلى الحرية أن التلاقي مع الطاقة العليا مفتوح لأي يكن، لكنه يظل بعيداً عن أولئك الذين يلقون المسؤولية على عاتق غيرهم. إن وقتنا على هذه الأرض مقدس وعلينا الاحتفاء بكل لحظة.
ينقل توماس فريدمان مقطوعة جميلة نقلها عن كتاب قديم يعود للقرن الثامن عشر وأرفقها في أحد مقالته المنشورة في جريدة الاتحاد الإماراتية في 13-10-2008 ونقلها موقع الحوار والإبداع في ذات الفترة: أيها البشر لقد كان من الأمور الطيبة دائماً أن نفكر كقطعان، ولكن ما سوف نتبينه من خلال الصفحات التالية أن الناس يصابون بالجنون عندما يصبحون جزءاً من القطيع، وأنهم يستردون أحاسيسهم وعقولهم ببطء عندما ينفصلون واحداً بعد واحد عنها...
في معرض الكتاب الأخير -وفي كل حدث ثقافي أو اجتماعي- تتبنى مجموعات الرعاة من رجال ونساء البحث عما يقض مضجع القطيع أو يهدد شعور رعاياه بالانتماء الفكري والشخصي لجماعات القطعان الكبرى. وعلى سبيل المثال لا الحصر قامت مجموعة من النساء اللاتي تبارين (ليظهرن مدى إخلاصهن للقطيع) في التنقل بين دور النشر في معرض الكتاب الأخير في الرياض وتقليب بعض الكتب المطبوعة وتسليم تقارير عن مخالفاتها التي رأينها تهدد خضوع القطيع ورفضن هن أنفسهن فكرة أن يستنشقن رائحة الاختلاف فيها أو مواجهة حمى الجماعة بل دافعن ببسالة منقطعة النظير عن فكرة الاستسلام الكامل لفكرة القطيع!!
وما حدث في النادي الأدبي في الجوف قريباً وقبله في حائل وقبله في كلية اليمامة وقبله.. وقبله وهكذا...كلها.. كلها أحداث تؤكد حدة شعور القطيع الذي اغتال عقل الفرد وألغى شعوره بالقدرة على التفكير الفردي بمنطق إنساني وطبيعي بعيد عن قيود وأوامر القطيع؟؟
مالذي يحدث لنا؟؟ ما هذه القوى التي تعبر مساراتنا الذاتية وتتغلب على كل شعور فردي بالقدرة على التفكير المستقل وكأننا عجنا بعجينة غير تلك التي تشكل بناء المجتمعات من حولنا؟؟
كيف تم تدجيننا في مخابز التنشئة الاجتماعية حتى أصبحنا أعضاء ممسوخة من الشعور ومن التصور الذاتي وكيف تم تكييفنا لتبني مسلمات هؤلاء دون تفكير؟؟؟
ومن هو هذا الخباز الماهر الذي أجاد صنعته حتى بدأت تغلبه؟؟
لا شك أن مخابز المؤسسات التعليمية هي أحد أقوى أفران التنشئة الاجتماعية صهراً لكل هذه الجموع التي غطى الغمام أفئدتها فبدت لا ترى حقيقة غير حقيقة المعلم.. لم تعد تفكر فيما يردده المعلم وما هي أقواله الأساسية وما هي التفسيرات المحتملة لكل هذه الأقوال.. غابت التفسيرات الأولية وذابت في شخص المعلم الذي بدا وكأنه هو المصدر... وكأنما هو النور ذاته في حين كان يجب أن يكون حاملاً للمشعل يقود طلابه لتلمس نور الحقيقة حتى يصلوها بأنفسهم لكن الطلاب ولأن الفرن الحارق أعمى عيونهم وأفئدتهم بدا المعلم لهم وكأنما هو النور... ترك المتعلمون مقاعدهم وتشبثوا برداء المعلم يبكون حوله وينشدون بصمته على أيديهم ووجوهم وأكلهم وشربهم وتنفسهم وبدا العالم من خلال أفواه هؤلاء المعلمين الذين قرروا في غبطة ونشوة الانتصارات الفردية لهم والجماعية لما يدافعون عنه أن يوسعوا أرديتهم لتضم جموعاً أكثر وأكثر من المتعلمين وهم ضيقوا النوافذ وحددوا مساحات التنفس التي اعتقد طلابهم المنومون أنها هي كل ما يتاح لهم من العالم حولهم فهم لا يأكلون إلا بموافقة المعلم وهم ينامون على الجنب الذي يوصي به المعلم ولا ينطقون أو يرددون إلا مقولاته وهم يمشون زرافات زرافات ممنين النفس بحمل راية هؤلاء المعلمين والانتقال لمقاعد الخبازين يوماً للمحافظة على وهج اشتعال الأفران؟؟؟
وهم يفعلون ذلك بصدق مؤلم لما يرون أنه النور وأنه الحقيقة وامتلأت حياتهم بالرموز والتفسيرات التي سمح معلموهم لها أن تعبر.. في حين غاب العالم وما يحيط به بكل حقائقه ووهجه وتاريخه وتفسيراته العظيمة عن عالمهم ومعارفهم ثم نسأل في حيرة مضحكة مالذي حدث لهذه الأجيال ولماذا تغلب التفسيرات المتفردة على عقولهم ولماذا يصابون بالهلع لأول مواجهة مع العالم فيحاولون في يأس تحطيمه؟؟
الثقافة التي تحيط بنا تعلمنا كيف نأكل ونشرب ونتحرك وهي بهذا تحدد لنا كيف نرى العالم وكيف نفكر فيه ونفهم رموزه المحيطة بنا والتي تفرضها هذه الثقافة:
يقول أرنست كاسسيرر (أن الأنسان لم يعد يعيش في مجرد عالم فيزيائي بل يعيش في عالم رمزي، واللغة والأسطورة والفن والممارسات الاجتماعية هي أجزاء من هذا الكون... ولا يستطيع الإنسان أن يجابه الواقع مباشرة فهو لا يستطيع أن يراه كما هو وجهاً لوجه، أن عليه أن يغلف نفسه في صيغ لغوية وفي صور ذهنية وفنية وفي رموز أسطورية أو في طقوس بحيث إنه لا يستطيع أن يرى أو يعرف شيئاً الا بتدخل هذه الوسيلة المصطنعة)!
وفكرة أن الثقافات عامة مليئة بالرموز والتفسيرات حقيقة بالطبع لا يمكن الاختلاف حولها والسؤال يبقي أيا من الرموز تستخدم كل ثقافة وإلى أي مدى تتعارض أو تتصالح هذه الرموز مع الحقائق العلمية المحيطة بعصر الإنسان الذي يعيش هذه الثقافة؟. مالذي يدفع بعض الثقافات عبر التاريخ لتكون أكثر غلوا في تفسيراتها وأقل ديناميكية في التفاعل مع متغيرات عصرها بحيث تخلق شخصيات جامدة تجد صعوبة في التفاعل مع غير ما تطرحه هي نفسها من تفسيرات ثقافية فتكون أقل على القدرة على النمو الداخلي وتصاب مجتمعاتها بنوع من الشلل الحضاري والعقلي والسيكلوجي.. في حين تكون ثقافات أخرى وربما في ذات المرحلة التاريخية أكثر قدرة على التعامل مع متطلبات عصرها من خلال ديناميكيات التفاعل داخل ذات الثقافة بحيث تخلق شخصيات ديناميكة قادرة على التعامل مع ما تحمله الثقافة ذاتها من متغيرات دون صراعات قاتلة كما يحدث في شرقنا التعس.