مرت الجنية على أحد الأحياء، فسمعت أنيناً متوالياً (آه ياني.. آه ياني) وعندما تقصت عن مصدر الصوت وجدت امرأة عجوزا تعيش وحيدة وسط قنينة خل، وهي تتأوه من ضيق المكان عمدت الجنية فوراً إلى نقل العجوز إلى كوخ صغير، فيه حمام وماء, لكنها بعد أيام كانت تقوم بطوافها المعتاد حول المكان، فسمعت نفس الأنين (آه ياني.. آه ياني) مشتكية من برودة الماء، وبعد أماكن التسوق وضجيج الشارع المجاور، فقامت بنقلها إلى منزل واسع فيه حديقة وماء بارد وماء ساخن ومطبخ ومستودع، لكنها بعد مدة عادت لتطوف بالمكان فتناهى إليها نفس الأنين (آه ياني.. آه ياني) متشكية هذه المرة من قلة أمانة الخدم ومن المسافات البعيدة في المسكن ومن أعباء صيانة ونظافة المكان، وفي ثورة غضب قامت الجنية بإعادة المرأة العجوز ذات الأنين المتواصل إلى مكانها في قنينة الخل فقد أيقنت أن أنين الإنسان لن يتوقف على الإطلاق إلا في القبر!
هذه الحكاية المعبرة أوردها المفكر الإنجليزي (كولن ولسون) في كتابه (رحلة نحو البداية) وقد اختار مترجم الكتاب الراحل (سامي خشبة) أن يكون الأنين في هذه الحكاية باللهجة المصرية الدارجة آه.. ياني وهي تدل دائماً على التوجع والحسرة والزهق من الحال المايل أو الذي أراده المشتكي أن يكون مائلاً على الدوام.. كله أنين.. وآهات.. سواء كان من سكان القبور أو القصور!! من يقرأ هذه الحكاية سوف يقارن حاله، بحال هذه المرأة العجوز، وحال الجنية التي عجزت عن إرضائها، فقد كنا قانعين فيما مضى من الأيام بمنازل لا تزيد مساحة الواحد منها عن السبعين متراً، بل إن هناك منازل مساحتها (36م2) عندنا واحد منها ما زال قائماً وبصحة جيدة مع أنه بني بالحجر والطين وسقف بخشب الأثل وفيه خرم اعتدنا أن نطلق عليه حمام!
نظرت إلى منزلنا القديم الذي كنت أراه في الأيام الطيبة في مساحة البحر، المطبخ وغرف النوم والمجلس والمنور، والحمام، وإذا به يضيق في عيني فقد كانت مساحته الشاملة ثمانين متراً، فتساءلت: كيف كنا ننام ونجلس في هكذا بيت؟ معه حق الوالد عندما سار وراء طموحه فبنى لنا منزلا من ثلاثة طوابق، مؤملاً أن يسكن كل واحد منا في شقة هي أكبر من حجم المنزل الطيني، وبكل شقة، منور وغرفتا نوم ومطبخ وحمام ومروش وصالون، كل هذه المزايا ومعها الماء والكهرباء، والثلاجة والغسالة في أكثر قليلاً من الثمانين متراً!!
وعندما بنيت المنزل الخاص بي وجدت أن ضيقة الخلق أو النفس بالمنازل القديمة جعلتني أضع همي كله في الصالون وغرفة النوم، وقد سألت نفسي عندما ذهبت لإلقاء النظرة الأخيرة على منزلنا الطين: كيف عشنا هنا في منزل مساحته لا تصل إلى مساحة صالون من المنازل التي بتنا نسكنها؟ ومع ذلك فإن الضيق باد علينا باستمرار من سوء عمل الخادمة والسائق والماء والكهرباء والمكيفات، حتى إن الأبناء في المنازل الآن يتمنون أن تكون لكل واحد منهم خادمة خاصة وجناح خاص وبركة سباحة وخيمة وملحق، وقد رموا وراء ظهرهم ذكريات الأجداد والآباء عند المجلس الذي يشبه المتاهة مع أن مساحته قد لا تزيد على العشرين متراً.
إن أحلام الإنسان لا حدود لها وضيقه لا حدود له، ولن تجد ذلك الإنسان الذي يبدي الرضا عن حاله وحال بلاده وحال أهله وحال مجتمعه، إنه دائماً يبحث عن المزيد، المزيد من المال والمنازل والرحلات والأصدقاء والحرية، وإذا وجد كل ذلك عاود القلق وكان الأحلام والطموحات هي دواء القلق.. وربما لا علاج لهذا المواطن بعد ذلك كله إلا أن يسكن في منزل بحجم قارورة الخل فالتأوهات في كل الأحوال لن تتوقف، لا منه ولا من غيره.. آه.. ياني!!
فاكس 012054137