أذكر أننا حين كنا نُبتعث للدراسة خارج البلاد، لم نكن نجد من يجتمع إلينا ويحدثنا في أمور لصيقة بقيمنا، مرتبطة بعقيدتنا، نابعة من بيئتنا، أو أن يمنحنا صورة مقاربة للمجتمعات التي سنندمج ببيآتها التعليمية ومن ثم بمجتمعها في أوسع نطاقه الجار، وقيم المكتبة، والبائع في الأسواق، والمرشد في المتحف و المسرح، وأضيقها التعامل مع الأسر، و بيآت السياحة ومحطات الانتقال، ذلك لأنّ الأجيال التي سبقت الراهنة معبّأة بوعي عن الحدود، ومدركة بفطرة خطوطها، بمثل ما فيها من نهم المعرفة ما كان يجعلنا نقرأ الكثير عن مواطئ ستلامس أقدامنا حينذاك، ومن بعد ستعبر بأذهاننا وعيوننا وعقولنا، بل بوجداننا، نسائم معارفهم وتقاليدهم وأعرافهم وأنظمتهم، بل طقوسهم اليومية بدءاً بقهوة الصباح وانتهاءً بصمت الشوارع في السادسة أو السابعة مساء, ومن ثم أيّ ساهر خارج داره بعد هذا الفاصل الزمني فله اتجاهه الخاص.., غير أنّ جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية كانت منذ ذلك تعقد لمبتعثيها دورات توعية وإرشاد، ولم تكن تغفل زوجاتهم، وأذكر أنها أسندت إليَّ فترة من الزمن المشاركة في توعية زوجات المبتعثين في الدورات التي كانت تُعقد حينذاك على زهد في وعائي, كما كانت تسندها للعائدين من بعثاتهم، حيث تطمح فيما يملكون من الخبرات ما يؤهّلهم للغرف من دلاء تجاربهم، وتنبيه أو لفت نظر الخالين منها من الموشكين على السفر للتعلُّم خارج البلاد, حتى إذا ما ذهبوا لم يدهشوا للتجارب الأول, ويكونوا على دراية مسبقة بمواقف ردّات أفعالهم تجاهها..
أما الآن فهناك وعيٌ كبير بحجم متغيرات طرأت ولا تزال تعبر بها مجتمعات العالم، في ضوء اتساع مجال البعثات وزيادة أعداد المبتعثين، بل تقاطر المواطنين على جامعات ومعاهد في شتى أنحاء العالم أتاحها النظام، بما فيها الشرق والشمال، ولم تَعُد أمريكا أو أوروبا وحدهما في مؤشر البوصلة، لذا هناك رحلات مكوكية واسعة لرجال وزارة التربية والتعليم، ليس للقاء الطلبة المبتعثين بهدف التوعية فقط, وقد كان هذا الأمر يقتصر فقط على الملحق التعليمي في كل بلد، بل لاحتواء تجاربهم الأولى عند مواجهة فضاءات مجتمعات حديثة في مجال خبراتهم واحتكاكهم وتعاملهم، و لعلّ ما أفاد به سعادة الدكتور عبد الله الموسى وكيل وزارة التعليم العالي ذات حديث عن الجهود الكبيرة التي تبذلها الوزارة، وعن الخطط التي يضعونها، والخطوات التي يقيمونها، والبرامج التي ينفّذونها من أجل المبتعثين الآن، فيه مفارقة شاسعة بين الخبرات التي يؤهّل بها المبتعث في وقتنا الراهن، وبين المبتعث في جيلنا، فبينما كان الميزان يميل بنا اعتماداً على أنفسنا، نجده يميل بهؤلاء رعاية من مسؤولي التعليم العالي، بحيث نجد هذه الرعاية تجعل شخصاً مسؤولاً مثله في رحلات مكوكية دائمة ودؤوبة بين جامعات العالم، ولا يقتصر الأمر على التوجيه والرعاية، بل في اختيار الجامعات، وعقد المقارنات بين نواتج ومحصلات التحصيل فيها، وأيُّها أنسب بل أقوى، وأين يمكن لمهارات المبتعثين أن تجد برامج دراسية تؤهّلها لأن تنخرط ذات عودة في بناء الوطن .. يبقى من كل الذي ورد أننا نحتاج إلى التأكيد على أن يتزوّد المبتعث والمبتعثة بمراقب ذاتي يعمل في داخله على أمرين، الأول منهما أهمية الفصل بين الهوية الدينية فينا تلك التي بختمها على الأرض لم يَعُد يرتضي الله للإنسان ديناً غيرها، وهي الإسلام والإسلام ليس بالقول بل على المبتعث كبيراً أو صغيراً أولوية الاقتناع بتمثل هذا الدين في مظهره ومخبره، ولعلّها مسؤولية الآباء بجانب مسؤولية الجهة المبتعثة، وليكن شرط التخلِّي عن هذه الهوية الإعادة للوطن وقطع البعثة عن صاحبها، والثانية، تقدير الوقت فالجد الجد ضماناً لكل ما يرتبط بزمن الدراسة جهداً وعمراً وإنفاقاً إلاّ ما كان من تعثُّرات خارجة عن الإرادة ويقدرِّها المسؤول.
تضطرني مواقف كثيرة للتعامل مع المسؤولين في الملحقيات أو وزارة التعليم العالي من أجل الآخرين ممن يقصدونني، وإنها لشهادة حق حين أؤكد بأنّ هناك جهوداً كبيرة وتفانياً منقطع النظير، من الجميع، ولعلّها فرصة لإزجاء التقدير للجميع، وتحديداً للدكتور عبد الله الموسى فهو خير نموذج للتفاعل الحيوي، وللعطاء الصادق.. في كل المواقف التي أحيلت لسعادته، مع الطلبة مباشرة أو شؤونهم المختلفة.. في خليتهم الوقادة تلك التي بعثت لي بصورة المقارنة بين ما يجده المبتعث اليوم وما وجدناه حين كنا على شفا برزخ من المبتدأ..