لم تكن الأزمة المالية العالمية بالحدث السهل أو العادي على المستثمرين وبيوت المال فقد أسقطتهم في دائرة الخسائر وكانت صدمة لم يستطيعوا الإفاقة منها بسهولة ولم تستثن أحداً وكرست المخاوف لديهم وإذا كانت السيولة التي تديرها صناديق التحوط وغيرها من المؤسسات المالية تستخدم وعاء القيمة في مثل هذه المراحل حتى تتحرر من التبعية لحركة الأسواق ولا تبقى مكبلة اليدين فهي بنفس الوقت توجد تظليلاً كبيراً لتوجهات باقي المستثمرين فمعلوم أن التحركات تركزت على العملات والذهب والنفط وكنا نشاهد وما زلنا انتقالات سريعة بين تلك الأسواق حتى يكون هناك مجالاً دائماً للتعويض والقدرة على التقاط الأنفاس والتوجه صوب الاستثمارات بالوقت المناسب وبعد قمة العشرين بواشنطن نوفمبر 2008 كان أهم عامل تم التركيز عليه هو إيجاد الاستقرار بالأسواق المالية عموماً والسلع حتى تستقر الأسعار وبالتالي تتشكل الأرضية المناسبة لاتخاذ القرارات الاستثمارية وتعود الأموال مجدداً للأسواق وتطمئن البنوك لتعود عجلة الإقراض والتمويل من جديد على كل مستوياتها للأفراد والشركات وحيث إننا لمسنا هذا الاستقرار لمدة زادت عن ستة أشهر بكل الأسواق المالية فإن المستثمرين أصبحوا أكثر قدرة على تقييم الأسعار والمخاطر المحتملة بالأسواق وتقييم الإجراءات المتخذة من قبل الحكومات وخصوصاً بالدول الكبرى اقتصادياً وقد استخدمت الكثير من الأساليب لطمأنة المستثمرين فبدأنا نسمع باختبارات الجهد والتحمل للبنوك الأمريكية ومدى قدرتها على مواجهة الظروف القادمة وغيرها من خطوات يتم الحديث عنها حالياً تمشياً مع ظروف ومتطلبات الأزمة ولكن يبقى للعموم الحق بسؤال مشروع أين اختفت السيولة ومتى تعود وإذا أخذنا السوق السعودي على سبيل المثال فإننا نرى شحاً بالسيولة لازم السوق خلال فترة ستة أشهر ماضية ولم نر ارتفاعات بأحجامها إلا في بداية الربع الثاني وبعد صدور النتائج بشكل واضح فبعد متوسط تداولات قارب 3 مليارات ريال الآن أصبحنا نشاهد سبعة وثمانية مليارات باليوم الواحد وإذا أردنا أن نحدد الأسباب لعودة السيولة بهذه القوة فهي تتمثل بشكل رئيسي في تكيف المتعاملين مع الظروف الاقتصادية الحالية وبالتالي شعورهم بوضوحها يجعل من هامش مناورتهم بالأسواق أكثر جدوى من بقائهم متخوفين فالنتائج المالية التي ظهرت مؤخراً بددت كل المخاوف فقد ارتفعت الأرباح عن الربع الرابع من 2008 بأكثر من 20 بالمائة وإن كانت النتائج الحالية شابتها بعض الأمور المحاسبية عدم الحاجة لوضع مخصصات من قبل البنوك كما حدث بالربع الماضي باستثناء بنك الرياض وتحسن أرباح الاتصالات السعودية فإن باقي النتائج لم تكن مرضية خصوصاً لقطاع البتروكيماويات لكن المعول الآن هو ارتفاع الأسعار للمنتجات مما يعطي طمأنينة بأن الأرباح ستكون ظاهرة على نتائج الربع الثاني وهذا ما جعل أسعار أسهم شركات القطاع تتحرك وعلى رأسها سابك وباعتبار أن نتائج ربع لا تعطي انطباعاً على تحسن الأوضاع الاقتصادية إلا أن المؤشرات الإيجابية بدأت بالظهور وتحتاج لأكثر من ربعين قادمين لتأكيدها ولكن ما يهمنا هو أن الاستقرار الذي حدث بالمرحلة السابقة أعطى الإشارة لأصحاب السيولة للتحرك نحو تملك الأصول والاستثمار من جديد للسنوات القادمة وعادة يستمر انتقاء الاستثمارات لفترة طويلة لذلك سيكون العام الحالي والعام القادم 2010 إلى قرابة نهايته هو لتشكيل هذه الاستثمارات وعودة السيولة والنشاط لتملك الأصول بشكل واضح وقد لا نشهد ارتفاعاً كبيراً بالأسعار لأن هذه الأموال تسعى لتأسيس مراكزها لمدى بعيد مما يعني أنها تنتقي الفرص وتستطيع تقييمها ليس فقط على مستوى شركة أو قطاع بل حتى على مستوى أسواق بعينها بمعنى أنها تنظر لأساس اقتصاديات الدول ومن سيكون الأسرع تعافياً وفي تقرير أخير لستاندر أند بورز ظهر أخيراً اعتبر أن اقتصاد المملكة سيكون من أسرع دول العالم تعافياً ورفع من تصنيفه وهذه كلها إشارات إيجابية ولكن يجب أن ننتبه إلى نقطة مهمة أن السيولة الاستثمارية لا تعود بسرعة ولا تتحرك عشوائياً أو عاطفياً فهي تريد الاستفادة والتعويض عن خسائرها خلال السنوات القادمة وبالتالي سيكون تحركها بموجب ما أفرزته الأزمة من توجهات قادمة وفرص ذات عائد كبير بالمستقبل.
سيولة المستثمرين الكبار التي خرجت من الأسواق بخسائر تريد ترتيب خارطتها الاستثمارية للمستقبل وقد انتظرت طويلاً حتى تشهد الأسواق الاستقرار المطلوب لتبدأ الآن مرحلة جديدة بالنسبة لها تعيد من خلالها توزيع نسبها على أسواق العالم والأصول الحقيقية التي وفرتها الأزمة لهم بأسعار رخيصة وبالتالي من يبحث عن الاستثمار الطويل الأجل فقد هيأت له الأزمة الفرصة على طبق من ذهب لينتقي منها ما يحقق أهدافه البعيدة الأمد وما نشهده من مضاربات ليست هي فقط طبيعة الأسواق بل أيضاً لتشتيت الأنظار من جهة وتوليد السيولة من بطن الأسواق وسنشهد خلال هذين العامين بعض التقلبات الحادة لأن عوامل الثقة لم تترسخ من جهة لدى العموم ولأن المستثمرين ليسوا في عجلة من أمرهم فما زالت الفرصة سانحة لظهور الكثير من الفرص الواعدة ومن يصبر على ذلك سيظفر بنتائج غير متوقعة بالسنوات القادمة فمثل هذه الأزمات لا تأتي إلا في فترات متباعدة فطبيعة الإنسان جبلت على الأمل والجد لتحقيق المكاسب ولذلك نرى الدورات الصاعدة لنمو الاقتصاد تكون طويلة بينما فترات الكساد تأتي قصيرة.