أظن أن أحد أجمل الأشياء التي ننتظرها في رمضان هو البرنامج الناجح (خواطر) لأحمد الشقيري الذي ضرب السنة الماضية في نسب مشاهدته (عيال قرية) بلا منازع؟؟
لماذا يجد الكثيرون أنفسهم مع نموذج الشقيري الذي يطرحه في بُعده الديني وطروحاته الإنسانية التي تعجن الدين بالحياة لتخرج نموذجاً دافئاً وقريباً يمكن تبنيه والزهو به دون الدخول في صراعات مع الزمن والتغيُّر..
في حين نخوض حرباً شرسة مع الأجيال من خلال ما يقدمه غيره لإرغامها على كافة المتناقضات، وليُقدم لها هذا الغير التديُّن كشيء متعارض مع التغيُّر ومع الأدوار المتحولة لكل من المرأة والرجل..فما زلنا في حكاية عباءة الكتف أو الرأس.. وما زال طلاء الأظافر قصة يجب تبريرها وما زال نتف الحواجب هو حكاية الحكاوي في جلسات النساء، ولم نصل بالطبع إلى قضية غطاء الوجه.. وهل هو قضية خلافية أم لا؟.. فهذه مسألة متقدمة جداً يصعب علينا هنا في نجد في الوقت الحاضر استيعاب تبعاتها.. ومن ثم نفضل هنا فصل ذاكرتنا الجماعية، ونفي تناقضات الواقع خلف مقاعد الحياة حتى نصل لنقطة تصادم كما العادة ترغم اللاعبين الرئيسين للانتقال إلى مقاعد الدرجة الأولى والبدء في البحث عن تبريرات مقبولة لأقوال متناقضة وغير واقعية!! (تأمَّل كل هذه الفتاوى وقارنها عبر فترات زمنية لتدرك حجم التناقض)!!
ما الذي يفعله هذا الشاب القادم من المنطقة الغربية - منطقة مكة المكرمة -.. وما الذي يقوله ولا نتمكن من فعله أو قوله؟؟.. إنه فقط مسلم يتبنى الدين كقيمة عميقة من الداخل وهو يرى أنها ببساطة أساساً للحياة الحاضرة، والذي يفعله أن يُرينا كيف يُمكن للإسلام أن يكون دين القيمة والرحمة والمسؤولية الشخصية والاجتماعية شاملاً بذلك الرجل والمرأة كما كلفهما خالقهما دون النظر إلى الجنس.. إنه يقدم هذا الدين ليس كممارسات سريعة نؤديها لإتمام الفرائض، بل إلى جانب ذلك كسلوك يتداخل في ما نفعله على المستوى اليومي في الشارع والعمل والمدرسة ومع أصدقائنا وأولادنا والغرباء منا - مسلمين وغير مسلمين -.. لديه شفافية عالية ليلتقط الاحتياج الاجتماعي والقلق المعاصر فيضعه ضمن أُطره الدينية التي تساعدنا على رؤية الصورة الأكبر لهذا الدين بعيداً عن كل أشكال التطرف التي يعج بها العالم الإسلامي ويقدم فيها الإسلام في صورة الدين المتطرف العاجز عن التغيير.. نموذج الشقيري يحاول في جهاد حقيقي نبذ الصورة المناقضة التي تمتلئ بها ذاكرة العالم عن المسلمين وما زال هؤلاء المتطرفون حول العالم في الصومال والباكستان وأفغانستان واليمن والسعودية وغيرها يحاولون تثبيتها كأسطوانة متكررة أعرف أنها تؤذي عين وأذن كل مسلم حقيقي.. لكننا نقف في قلق وتخوف وعجز ظاهر أمام قوة حضورها التي تتثبَّت الصورة المقلوبة للإسلام بعد كل حادثة تطيرها وسائل الأعلام في ثوانٍ متى ما حدثت.
ما يفعله الشقيري وبلغة بسيطة محببة وبتناوله لقضايا يومنا المليء بالتناقضات هو أن يُذكِّرنا أن الدين ليس عبئاً على أحد.. بل هو أسلوب حياة يتفوق الإنسان من خلاله على نفسه متى تمكَّن من الخروج من عباءة الظواهر وخلع هذا الرداء الثقيل لكل هذه التفسيرات المتناقضة للتراث الديني التي بُنيت خلال تاريخ طويل من التحولات والصراعات السياسية والتاريخية التي استخدم فيها الإسلام لأغراض سياسية ومصالح جماعات بما أضرَّ بالرسالة الخالصة لهذا الدين التي تتوجه للإنسان أولاً وأخيراً بغض النظر عن موقعه وجنسه ودينه وخلفيته العرقية أو مستواه الاجتماعي والاقتصادي.
الشقيري الشاب يتوجه للأجيال الشبابية ليُذكِّرها بأهمية أن يكون لديها منارة أخلاقية وقيمية تتظلل بها في عصر متلاطم يحتاج المرء فيه إلى منارة تهديه، ولن يجد خيراً من هذا الدين ليفعل ذلك، وهو يفعل ذلك من خلال طرح نفسه كنموذج للشاب العصري الذي يواجه تناقضات الحياة المعاصرة، فلا يجد مشكلة في التعامل مع دين يؤمن بعالميته وبقائه.. فريق إعداده يضم شباناً وشابات ولم تقف مشكلة وجود المرأة في الحيز العام كعقبة (ولا يجب أن تكون اليوم).. أو كيف تتنقل وكيف تتعامل مع الطاقم الرجالي أو كيف تسافر وتلبس؟... إلخ من القضايا التي تمَّ استهلاك جهدنا وأيامنا في تفاصيلها دون أن نجد مخرجاً مناسباً فبدأ كل واحد يصارع بذاته ليجد طريقه وسط التناقضات فلعل وعسى.. وهنا أطل علينا هذا الفتى ليقدم لنا النماذج جاهزة ويسهل علينا طريق الفهم ويدخل في حياتنا ومع أطفالنا وفقرائنا ومع شغالاتنا ومع أزواجنا ولنكتشف أن النموذج أسهل بكثير من الوصفة النجدية التي تجعل تبني أي من تفسيراتها قضية تستحق المناقشة والنضال في كل مرة.
شكراً أيها الشقيري فقد مكَّنت الكثير من الأجيال الشابة من رؤية الصورة الحضارية لدين هَدفَ رسوله أن يكون باقياً إلى يوم الدين.. شكراً لك أيها الشقيري لأنك أرغمت فتيات وفتياناً في السن الخطرة (من أربع عشرة إلى ثماني عشرة) لمتابعتك يومياً وإقناع الأهالي معهم على مشاهدة حلقاتك ثم إخضاع مفاهيمها للجدل والمناقشة فحركت المياه الراكدة وأثرت الغبار وقدمت لهم نماذج مبسطة يُمكن الاهتداء بها لخلق مثل عليا في حياتهم يعملون من أجلها ويُسخِّرون طاقاتهم لخدمة أهداف دينية ومجتمعية هي صلب هذه الرسالة السامية، وهم كانوا أشد ما يحتاجون إلى ذلك في ظل الفراغ الفكري والقيمي الذي تعجز مدارسنا وعائلاتنا والكثير من علمائنا في الوقت الحاضر عن تقديمه للتمثُّل به وفهمه ضمن شبكة الحياة المعاصرة المعقدة.
لا أعرف هذا الرجل على المستوى الشخصي.. ولا أملك مالاً لدعمه للتأكد من أنه سيستمر في برنامجه الجميل.. لكنني أتمنى ممن يملكون ذلك أن يساعدوه على الاستمرار، فهو يقدم بدائل هي الأكثر حاجة في الوقت الحاضر، لتملأ قلوب شبابنا بالحب والطمأنينة وتريهم وتعطيهم الوسائل التي من خلالها يمكن أن يحفظوا دينهم وقيمهم، وفي ذات الوقت يعيشون عالمهم الحاضر دون أن تُوجد تناقضات حادة ترغمهم على هذا أو ذاك.
الدين هو الحياة إذا كنا نرغب لها أن تكون.. لكنه يمكن أن يقف عقبة في طريق أفراد ومجتمعات إذا أردنا ذلك أيضاً وأصبغنا عليه من توصيفاتنا البشرية ورؤانا الشخصية ما يُمكن أن يبعده عن أن يكون وسيلة فاعلة تسهل الحياة الحاضرة وتدخله في ثناياها بدل الصراع على الرؤى الشخصية والذاتية وكأنها المطلق.