يستهلكُنا التنظير؛ فيبدو خطابُنا نخبوياً مرهقاً بالمقدمات والحيثيات والتحليل والنتائج، وربما بدا ذلك مبرّراً في القضايا الثقافية والأكاديمية ذات الطابع المنهجي الموجّه لفئات معنية ويتم تبادلُه داخل هذا الإطار، لكنه يبالغ حتى يطغى على الخُطب والندوات والمحاضرات؛ فنردِّد معلومات دون أن تغوصَ أيدينا في التراب، ومن غير أن نتيقّن الماءَ من السراب.

* نأتي جميعنا لصلاة الجمعة وأكثرُنا للصلوات الخمس، ونعرف قيمة اعتدال الصفوف، وعدم تخطِّي الرقاب، وتجنُّب إيذاء المصلين، ولكننا - في الوقت نفسه - لا نستطيع أن ننظم مواقف سياراتنا؛ فلا يعيق أحد أحداً، ولا نغلق بوابات المنازل وممرّات العبور، ولا نضع أحذيتنا في الأماكن المحدّدة لها، ونجد أماكن الوضوء مليئةً بما يكرهُه الذّوق ويتنافى مع مقاصد الشرع في الطهارة.

* الأمثلة كثيرة في واقع الحياة العامة، غير أنّ النماذج السابقة تشير إلى الفجوة الكبيرة بين النظريّة والتطبيق، ولو انفتح الإطار على المجال الثقافي والاجتماعي لاتسعت الهوّة بين منْ يكتبون عن الفضائل ويخالفونها، ومن يدعون للإصلاح ولا يطبقونه، وهنا يجيء التساؤل حول مقدرتنا على الانتقاد: نوجِّهه للحياة والأحياء ولا نستطيع ذلك مع دواخلنا.

* نفكر بتغيير العالم - كما قال تولستوي - ولا نفكر بتغيير أنفسنا، ولا نقدر على تنظيم مواقف السيارات أمام الجامع، وترتيب الأحذية في مدخل المسجد، وتهيئة المواضئ بشكل يمثِّل شطر الإيمان.

* تبدو أموراً يسيرة، لكنّها لو تمّت بعقد مجتمعي شامل - ولمن شاء أن يحسب ويحاسب صاحبكم - فإنّ التخلُّف سيكون من الماضي؛ وهو ما يعني أنّ العمل سيتمُّ وفق دقّات الساعة: (سبع ساعات سمان)، وأنّ الوظيفة لن تعاني من تهاون أو هوان، وأن لا ضعيفَ يحتاج إلى قوي، ولا حق يسلبه شقيّ أو وصيّ، وليس للفساد مكان، وهنا لن تخترق التعليمات، ولن يعتدى على الممتلكات، ولن نجد من يتهافتون على بيع مكينة خياطة دفعت معظمهم لذلك حاجة أو فاقة؛ فتندّرنا عليهم، ولم نفتش في نفوسهم عن تأثير الإيمان ومشاعر الأمان.

* لا يحتاج ذلك إلى أكثر من نظام وتوجيه ومراقبة ومحاسبة يشرف عليه خطيب الجامع وإمام المسجد ورئيس الدائرة، فهل يعيينا السبيل؟

* هكذا يبدأُ التغيير الذي تسعفه القدوة والقوة؛ فالشكل المرتّب هو المنطق المهذّب، والإحساس بالآخرين طريقُ الناجحين، وموقفٌ وحذاءٌ وساعة إشارات غير عابرة لمكامن التطور لا مكائن التندّر.

* التغيير حركة.