يتميز الوطن بثراء جغرافيته وبتعدد أجوائه وثقافاته، بدءاً من الساحل ومروراً بالصحاري والسهول الزراعية، وانتهاءً بالجبال العالية التي تتميز بطبيعتها الساحرة ومناظرها الخلابة…، كنت في زيارة في الأسبوع قبل الماضي إلى جازان، تلك المنطقة التي تحظى في العهد الحاضر باهتمام حكومي مميز، فالطرق والجامعة والمدينة الصناعية تمر في مرحلة التطوير والتأسيس لمستقبل يخدم أبناء المنطقة، ويرفع مستوى المعيشة، بالإضافة لذلك تتميز جيزان بجبال وسهول في غاية الجاذبية، وبجزيرة فرسان التي مرشحة لأن تكون منتجعاً سياحياً شتوياً من درجة رفيعة..
زيارة وادي لجب حكاية ليس لها نهاية، ذلك الوادي الذي يندر أن ترى مثيل له في تضاريس الأرض، ولا يمكن أن يتخيل أحد جمال طبيعته قبل أن يقوم بزيارته والسير بين الجبال الشاهقة متنقلاً بين الصخور وتحت الشجيرات وبجانب الشلالات الطبيعية.. لكن الحكاية الأكثر إثارة بالنسبة لي لم تكن فقط في تضاريس وادي لجب، لكن في الطريق إليه عبر وادي الريث وأهله الذي يتميزون بكرم لا حدود له، وبلغتهم العربية والتي شعرت عند سماعها لأول مرة أن (أم) التعريف أكثر موسيقية وعذوبة من (أل) التعريف.. لكن لغة العرب الشمالية انتشرت في كل مكان بفعل العامل الديني، وحاصرت لغة الجنوب العربي في قمم الجبال الشاهقة.
كان إكليل الزهور والورود ذوات الروائح العطرة أكثر شيء أثار اهتمامي في منطقة الريث، بجانب كرمهم الإنساني ورحابة صدورهم للزائر، فالرجال على مختلف أعمارهم، يضعون كل صباح على رؤوسهم إكليلاً من الورد، ثم يخرجون في الطرقات للعمل أو التسوق، تماما مثلما يضع النجدي عقاله على رأسه أو مثل الحجازي عندما يخرج واضعاً عمامته على أعلى هامته، وكما عرفت من أهالي المنطقة أنها عادة قديمة ومتأصلة عند بعض ساكني الجبال العربية في الجنوب، لكنها لا زالت حاضرة في وادي الريث إلى اليوم..
قد تدخل هذه العادة البهية في دائرة المألوف عند أهالي المنطقة، لكنها بالتأكيد تثير الدهشة على محيا زائرها لأول مرة، فعادة لبس إكليل الزهور كل صباح أمر يدعو للتأمل وللتفكير في تراث الجمال الإنساني عند أهالي جيزان، وفي علاقة الروائح العطرية بالمجتمع الجازاني، وهي بالفعل ظاهرة نادرة في العالم، وتتميز بذوق فطري رفيع مختلف عن أزياء إيطاليا ومتميز عن عطور فرنسا التي دائماً ما تختطف أبصار وأموال الطبقات البرجوازية في العالم، لكن عفوية إكليل الزهور لم تلفت بعد انتباه المهتمين بالتراث الإنساني، بل أن وجودها كتقليد إنساني فريد أصبح مهدداً بالفناء، بالرغم من أنه سمة طبيعية تتميز بها بعض قبائل الجنوب العربي منذ القدم، وتأتي طبيعية تماماً مثل تلك الشلالات التي يخترق صوت خريرها حالة الصمت التي تسكن وادي لجب منذ آلاف السنين..
باختصار إكليل الزهور معرض للانقراض، فالشماغ الأحمر يجتاح الأودية والسهول، وصار له حضور لافت في قمم الجبال، كما هو الحال في بقية المناطق، ولا غرابة فهو يتصف بوجاهته الدينية والاقتصادية، يسانده في ذلك هيبته الرسمية، وفي نفس الوقت تدعمه قوة شرائية ودعائية، وهو ما قد يهدد ذلك التنوع الجميل الذي تميز به الوطن، والذي من المفترض أن يزداد جمالاً بتنوع ألوان الطيف فيه، وباختلاف أشكال التراث وسمات الثقافات الإنسانية، والتي تنتظم في عقد جميل، تربطها خيوط من التآخي والمواطنة والاحترام المتبادل، ثم تجمعها في وحدة لا يغيب عنها الحسن والجمال والسلام للأبد..