مما يزيد من تباعد أجزاء النظام الصحي وجود اختلافات أو تداخلات عكسية أخرى منها على سبيل المثال:
- نظام المؤسسات الصحية الخاصة هو الذي ينظم شروط وقواعد الترخيص لهذه المؤسسات. ومن بينها....
.....اشتراط وجود استشاريين أو أخصائيين في المجمعات الطبية أو عدد معين من هيئة التمريض أما تصنيف العاملين قبل الترخيص لهم بممارسة المهنة فإنه تجربة الهيئة السعودية للتخصصات الصحية. وهذه الشروط والإجراءات لا تطبق على المراكز الصحية الحكومية التي تشبه في وظيفتها المجمعات الطبية الخاصة (المستوصفات).
- العاملون في القطاع الخاص الذين يشملهم التأمين الصحي أثناء الخدمة ينقطع عنهم بعد بلوغ سن التقاعد - أي عندما يكونون في أشد الحاجة إليه، ويتحول السعوديون منهم إلى الخدمات المجانية التي تقدمها وزارة الصحة أو يتحملون بأنفسهم تكاليف علاجهم.
- حق الانتفاع - وهو أهم أركان النظام الصحي - يتأثر سلباً بصعوبة الحصول على الوصول إلى الخدمة. والواقع أن سكان المدن الكبيرة يحصلون على خدمات علاجية أفضل من سكان الأرياف أو سكان أطراف وأحياء المدن العشوائية بسبب كثافة الخدمات بها وقربها وسهولة الوصول إليها.
- بعض القطاعات الصحية الحكومية تقيم (مراكز أعمال) خارج وقت الدوام الرسمي وبعضها يمنع ذلك، وبعضها جرب ذلك ثم ألغاه.
ولكن لماذا سرد كل هذه التفاصيل؟
إن الغرض من هذا السرد هو التأكيد على أن النظر إلى ما تقدمه هذه الجهة أو تلك أو هذا القطاع أو ذاك من خدمات صحية وما يظهر في بعض هذه الخدمات من نقص أو قصور أو أخطاء بمعزل عن النظرة الشمولية لواقع النظام الصحي وتباعد أجزائه - لا يقود إلى تحسين فعلي دائم لهذه الخدمات. وحتى لو زاد الإنفاق عليها فإن ذلك لا يكفي، إذا لم يوجد لدينا نظام صحي جيد متماسك الأجزاء، يكفل لجميع شرائح المجتمع حق الانتفاع بخيراته والراحة في فئ ظله.
وقد يلح على الذهن تصور يرى أن تعدد مقدمي الخدمة وأساليب الإدارة في مجتمع ما شيء مفيد يدفع للمنافسة على الجودة والمزايا ويتيح للمواطن والمقيم فرص الاختيار.
إلا أن هذا الكلام الجميل لا يعكس واقع الحال. بل إن النقيض من ذلك هو ما نشاهده في الحقيقة. ذلك أن أجزاء النظام يعُض بعضها بعضا فيعاني كل جزء من الآخر قليلاً أو كثيراً. ونسوق بعض الأمثلة للتوضيح:
- تنفق الدولة على خدماتها الصحية الكثير من المال وتقدمها بدون مقابل لكافة المواطنين، لكن شريحة كبيرة من هؤلاء تذهب بعد حصولها على هذه الخدمات التي لا تكلفها شيئاً لتطلب مثلها من خدمات القطاع الصحي الخاص (ازدواجية الاستفادة) فكأن ما ينفقه القطاع الحكومي على هؤلاء يذهب هدراً أو أن ما تنفقه هذه الشريحة من مالها الخاص يعد مالا ضائعا والعكس صحيح أيضا.
- برامج التشغيل الذاتي تستقطب الممارسين الصحيين المتخصصين بما تقدمه من حوافز ومزايا على حساب المؤسسات الصحية الأخرى التي تدار بالأسلوب التقليدي وهي الأكثر عدداً والأضخم عملاً.
- المؤسسات الصحية الخاصة تتعاقد مع استشاريين من الجامعات أوقاتاً محددة - لكن ذلك يتحول إلى انتهاك للوقت المخصص للتدريس والبحث والطلبة والمرضى المراجعين للمستشفيات الجامعية.
- مراكز الأعمال التي أحدثتها بعض القطاعات الصحية الحكومية يرى فيها القطاع الصحي الخاص منافسة غير عادلة، لأن هذه المراكز لا تحمل على سعر تكلفة الخدمة تكاليف الإنشاء والتجهيز ومرتبات الأطباء - حيث إن الدولة تتحملها أصلاً على عكس ما يفعل القطاع الخاص.
- تقوم الصيدليات التجارية ببيع كثير من الأدوية - أو ربما جميع الأدوية المشروطة بوصفة طبية - بدون هذه الوصفة اعتماداً على مشورة الصيدلي مما يبعد كثيراً من المرضى عن مراجعة العيادات الطبية.
من السرد السابق يتبين للقارئ الكريم أنه يصعب الحديث عن نظام صحي واحد متماسك الأجزاء واضح العلاقات في المملكة، على الرغم من وفرة الخدمات الصحية والتقدم الطبي في العديد من المستشفيات التخصصية وما أسفرت عنه الجهود في المجال الوقائي بانحسار الأمراض المعدية.
ما هو المطلوب..؟
إن المطلوب ليس هو صهر أجزاء النظام في سبيكة واحدة، فهذا غير مرغوب وغير ضروري وقد يؤدي إلى تحول النظام إلى كتلة بيروقراطية صماء.
كذلك ليس المطلوب تخصيص كل أجزاء النظام بنقل إدارتها (أو ملكيتها) للقطاع الخاص يأساً من كفاءة الإدارة الحكومية وثقة بمهارة الإدارة الخاصة، لأن ذلك قد لا يراعي التوازن بين الجدوى الاقتصادية والأهداف الاجتماعية المهنية. ما يتمناه المرء هو أن يُنظر إلى النظام الصحي بكل أجزائه وليس إلى كل جزء على حدة. وأن تتقارب هذه الأجزاء ويُحدد دور كل منها ضمن النظام نفسه بحيث يوضع كل جزء في مكانه الصحيح بحيث تصبح مثل منظومة عقد ينتظمها خيط واحد.