عندي قناعة كبيرة بأن الكثير من سلوكياتنا الحياتية ذات بعد نفسي مؤثّر وإن كانت في الظاهر لا ترتبط بعلم النفس لا من قريب ولا من بعيد، ومن هذه السلوكيات ذات الصلة القوية بهذا الفن من فنون المعرفة (تعاطينا مع الزمن)، البعض منا يبقى أسير ماضيه يتغنى به إن كان جميلاً، أو يلعنه ويجتر صفحاته السوداء صباح مساء إن كان - لا سمح الله - سيئاً، ليس هذا فحسب، بل ربما لازمه التفكير السلبي والنظرة السوداوية للحاضر والمستقبل بسبب موقف مرَّ به في صغره، وصار زمنه حتى موته متلازماً مع السلوك السلبي وربما أضحى مجرماً نتيجة موقف لم يستطع أن يتجاوزه رغم مرور السنين وتصارم الأيام!! في المقابل هناك من الناس من ينسى ماضيه بجميع معالمه ومنعطفاته، أحزانه وأشجانه، أفراحه وأتراحه، يتناسى أولئك الذين كانوا معه على متن سفينة الزمن المبحرة في عباب التاريخ، ينسى من هو، وما هي حاله، وأين كان يسكن، وكيف كان يعيش، ليس هذا فحسب، بل ربما تغافل عن المضارع الذي هو فيه وراح بعيداً يرسم للمستقبل الدنيوي ويخطط له، يعيش الزمن الخيال ويرحل عن الواقع الذي هو فيه، تدغدغ مشاعره الصورة الرومانسية للمستقبل الذي لا وجود له إلا في رأسه المنفصل بالكلية عن جسده الذي يدب على أرض الواقع شاء ذلك أم أبى، تراه يجمع المال من كل طريق وبكل سبيل، يكنزه بالملايين ولا ينفقه على نفسه ومن أجل نفسه وفي سبيل إعزاز مَن حوله من زوجة وولد ومحتاج!! ولذلك هو نفسياً يعيش خارج الزمن مثله مثل ذلك الإنسان الذي ما زال يقبع في الماضي ولا يزال أسيراً له، نعم لا بد أن ترتبط سنوات الحاضر بما مضى من تاريخ كما أن ما هو قادم من أيام جزماً يتكئ على ما أنت فيه من حال ولذا كان التخطيط اليوم مبنياً على الزمن الفائت ومعتمداً على الحال المضارع من أجل المستقبل.. هذا التعاطي السلبي الفردي مع الزمن قد يتعدى دائرة الذات ليرحل إلى ماضي الآباء والأجداد وربما القبيلة كلها وكذا العكس ينتقل إلى مستقبل الأبناء والبنات فترى الأب هو من يحدد تخصص الولد ويختار زوجته ويرسم حياته وكأنه يريد أن يحقق ما كان يصبو إليه في عمره المتصارم من خلال ولده (يعيش زمنه وزمن غيره) والواجب في هذا وذاك هو بذاته الواجب على كل منا حين يتعاطى نفسياً مع زمن الأمة، إذ إن منا من تلازمه حتى اليوم عقد الماضوية بشكل فج ممجوج فهو لا يتحدث إلا بلغة (كنا وفتحنا ووصلنا وانتصرنا وحررنا وقتلنا وأسرنا وسبينا) وإن شئت أن تقلب الشريط فلن تسمع سوى نبرة التفاؤل التي لا تقوم على أساس من واقع معاش، بل هو نفسياً مدمن على العيش خارج الزمن الذي هو فيه إما ماضياً أو مستقبلاً (سننتصر، وسنقتل اليهود، وسينزل المهدي، وسنحكم الأرض، وسيعيش الناس بسلام)، نعم كل هذا سيكون - بإذن الله - ولكن هل تنتظر حتى يأتي الزمن الموعود!! وهل ستكون أنت من جند الحق لحظة الزمن الغائر في عقارب الساعة المجهولة في تاريخ سيكون!! لقد جاء النهي الصريح على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في التعلق بما مضى في مثل قوله: (وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا ولكن قل قدّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان) و(لو) هذه الكلمة بحد ذاتها -كما يقول الطحاوي - ليست مكروهة على إطلاق، إذ ذكرها الله في كتابه ونطق بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم والمقام ليس مقام التأصيل والبيان لهذه المسألة العقدية محل الاتفاق، ولكن الشاهد أن مقصود النهي عن (اللو) هو تحرير الإنسان من الماضي وقيوده، وتوجيه طاقاته للحاضر وإرسال نظراته الخارقة حجب الزمن للمستقبل القريب منه والبعيد، مع وجوب قراءات الماضي والاستفادة من دروسه دون العيش في ساعاته واجترار أحداثه الموجعة أو المفرحة السارة. بقي أن أشير وعلى عجل إلى أن لكل عمر قوته ولذته ولكل سن خصائصها ومميزاتها والحصول على الشيء والفرح به مرتبط بالزمن، فالزواج والسيارة والسفر والطعام وغير ذلك كثير قد يكون مرغوب من الجميع ولكن فرحة الشاب بشراء سيارة جديدة ليست كفرحة من بلغ الأربعين أو يزيد، وقس على ذلك كثيراً من لذات هذه الحياة، ولذا لا بد أن يحرص الإنسان على الزمن ويتعاطى معه نفسياً تعاطياً إيجابياً لحظة بلحظة وسنة بعام ولنحرص على أن نكون في تفكيرنا الدنيوي داخل الزمن لا خارجه، وفي نظرتنا للحياة الآخرة خارج الزمن لا داخله فالمقاييس في الحياتين مختلفة والزمن غير الزمن، والأرض ليست هي الأرض، والناس إما إلى جنة أو إلى نار. وإلى لقاء والسلام.