|
قرر ابن زريق البغدادي أن يترك وطنه العراق ويذهب إلى الأندلس بعد أن نظم قصيدة جميلة أراد أن يلقيها بين يدي أحد ملوك الأندلس متوقعاً أن تكون هذه القصيدة جواز سفير يعبر به حدود البؤس والشقاء فينتشله طائر السعد إلى علياء طموحه الذي فشل في تحقيقه في جنبات بغداد التي أضاعت ركازها واستبدلته بالإفراط والتفريط في فلذات كبدها. أخبر زوجته بقراره فكان وقعه عليها كالصاعقة، فأخذت تعذله وتحاول أن تثنيه عن عزمه ولكنه قرر المغامرة يحدوه الطموح والأمل في تحقيق أحلامه. حزم ابن زريق أمتعته وودع صاحبته وأحبابه وتوجه صوب الأندلس، وبعد مسيرة طويلة جداً تكللها ما تكللها من العناء والضنك والتعب وتجشم فيها الكثير من المخاطر، وصل إلى الأندلس. حضر ابن زريق نفسه وأحسن هندامه وتوجه إلى قصر الملك وبعد انتظار سمح له بالدخول عليه ثم ألقى ابن زريق جوازه بين يدي الملك لعله يختم عليه فيغادر إلى فضاءات أحلامه. ولكن الملك رفض عبوره، لا حجة له إلا غباؤه وتخلفه في عدم فهم كيفية استغلال مورد بشري كابن زريق.
|
عاد ابن زريق إلى خانه يتجرع مرارة قطعت كبده إلى أجزاء صغيرة، وأخذت نفسه المرهفة الحالمة تستعيد صوراً غطت سماءها بثور ضخمة من الغيوم الكئيبة أمطرت كسفاً من الثلج حفرت في وجه حياته أخاديد من ظلم الزمان وسوء الطالع.
|
عاد إلى خانه وقد اشتد به الحزن، واللوم قد أخذ منه مأخذه وضميره الحي قد أوغر جرحاً في قلبه فما كان منه إلا أن أخذ رقعة من قلبه وكتب عليها بحبر من نزيف جراحاته عينيته التي أعيت أعين ذوي الضمائر الحية سهراً وحرقة.
|
كتب عليها مخاطباً حليلته قائلاً:
|
لا تعذيله فإنّ العذل يولعه
|
قد قلت حقاً ولكن ليس يسمعهُ
|
جاوزت في لومه حداً أضر به
|
من حيث قدرت أن اللوم ينفعه
|
فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلاً
|
من عذله فهو مُضنى القلب موجعه
|
ثم وصف صاحب الطموح قائلاً:
|
قد كان مضطلعاً بالخطب يحمله
|
فضيقت بخطوب الدهر أضلعه
|
|
إن الزمان أراه في الرحيل غنى
|
ولو إلى السد أضحى وهو يزمعه
|
تأبى المطامع إلا أن تجشمه
|
للرزق كدا وكم ممن يودعه
|
وما مجاهدة الإنسان توصله
|
رزقاً ولا دعة الإنسان تقطعه
|
قد وزّع الله بين الخلق رزقهم
|
لم يخلق الله من خلق يضيّعه
|
لكنهم كلفوا حرصاً فلست ترى
|
مسترزقاً وسوى الغايات تقنعه
|
والحرص في الرزق والأرزاق قد قسمت
|
بغي ألا إن بغي المرء يصرعه
|
والدهر يعطي الفتى من حيث يمنعه
|
إرثاً ويمنعه من حيث يطمعه
|
وعليه فإن هذا النص ليس إلا شمساً من مجموعة شموس أضاءت سماء الفكر الإنساني وأضافت عبقرية أساء إليها من أساء إلى العدل في الإنسانية. أولئك الذين حاولوا بغباء إيهام البسطاء أن الفقر والعوز مصدر الإلهام والقوة، وحاولوا بسذاجة تغييب العقلاء عن إدراك حقيقة أن التطور لا يأتي إلا بالرفاهية.
|
|