لقد كان للتصريحات المبهجة التي صدرت عن سموكم فور صدور المراسيم الملكية بتعيينكم، ونوابكم الكرام على قمة الهرم في وزارة التربية والتعليم الأثر الطيب في نفوس المعلمين والمعلمات. إذ أبديتم حرصكم واهتمامكم بهذه الشريحة المهمة في العملية التربوية والتعليمية. وهذا تأكيد للمقولة التربوية (إذا أردنا إصلاح أمة فعلينا إصلاح التربية.. وإذا أردنا إصلاح التربية، فعلينا إصلاح المدرسة.. وإذا أردنا إصلاح المدرسة فعلينا إصلاح المعلم).
فالتربية هي الأساس المتين، والداعم القوي لنهضة الأمم، وتقدمها، وهي الطاقة المحركة لمسيرة الأمة، كي تتبوأ المكانة اللائقة بين الأمم المتسابقة، في عصر لا يعرف الركود أو التأجيل.. وهذا المفهوم يتوافق مع العبارة الجميلة التي تزين واجهات مدارسنا اليوم (وراء كل أمة عظيمة.. تربية عظيمة).
التربية العظيمة التي تهدف وتسعى إلى إعداد الإنسان الصالح إعداداً متكاملاً من الناحية النفسية والروحية والاجتماعية والجسمية. وبالرغم من تعدد ميادين التربية ومصادرها، مثل (البيت، والمسجد، والنادي، ووسائل الإعلام المختلفة، والاتصالات التقنية) إلا أن الدور المهم والأثر الفعال الذي تملكه المدرسة ذات الرسالة النبيلة والهدف السامي يجعلها تمثل المجتمع النموذجي والمثالي كما تمثل البيئة التربوية الصالحة، لاحتضان تلك البذور الغالية.. فلذات الأكباد، وأمل الوطن وثروته التي لا تقدر بثمن.
إلا أننا مهما أنشأنا من مبان مدرسية نموذجية.. ومهما وفّرنا لها من تجهيزات تقنية متطورة، ومهما طوّرنا من مناهج تعليمية.. ومهما وضعنا من أنظمة إدارية وتربوية، ومهما اعتمدنا من برامج ومشروعات وخطط مستقبلية.. فإن تلك الإمكانات الضخمة - وبالرغم من أهميتها - تظل عاجزة عن تحقيق المأمول منها، الذي ينتظره الوطن في حال غياب فارس هذا الميدان وسيده.. في حال غياب المربي الفاضل والمعلم الكفء.
ولقد أدركت الدول المتقدمة منذ زمن أهمية المعلم ودوره الفاعل في استثمار الميدان التربوي، وتسديد أي خلل أو نقص ينتابه، لصالح العملية التربوية والتعليمية المأمولة. فأولت تلك الدول جل الاهتمام بعملية الانتقاء والاختيار، ووضعت لها المعايير الدقيقة، والضوابط المناسبة التي تتطلبها عملية الإعداد والتهيئة للمهنة، بما يتماشى مع إستراتيجية البلد المستقبلية.
وإذا كان التدريب أثناء الخدمة قد أخذ أهمية قصوى في مختلف الوظائف والمهن لدى تلك الدول، فإن الميدان التربوي الذي يتميز بالتطور السريع قد أخذ نصيب الأسد، حرصاً منهم على مسايرة متطلبات العصر وظروفه.
وفي المملكة العربية السعودية اعتاد قطاع التربية والتعليم والتدريب أن يخصص له سنوياً أكثر من ربع ميزانية الدولة، إيماناً من ولاة الأمر أن الاستثمار في الإنسان السعودي هو الاستثمار الأمثل. ثم يأتي (برنامج خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز لتطوير التعليم العام)، ليؤكد حرصه - حفظه الله - على أهمية التربية والتعليم في بناء المواطن وسعادته وتطور الوطن وتقدمه.
وبالرغم من أن مدارسنا تضم بعضاً من المعلمين والمعلمات الذين يقومون بأداء واجباتهم التربوية والتعليمية بكل كفاءة وإبداع وأمانة وإخلاص، إلا أن وضع الذين سينخرطون في ميدان التربية والتعليم في المستقبل، أو ممن هم في مدارسنا حالياً يحتاج إلى دراسة تقويمية وموضوعية دقيقة توضح الصورة وتنير الطريق، من أجل وضع الرؤية المستقبلية، والخطة الإستراتيجية التي تتحقق من خلالها الأهداف النبيلة التي تسعى إليها هذه الوزارة.
وفي هذا السياق أمامنا عدة اعتبارات مهمة يمكن إيجازها فيما يلي:
لابد أن تكون مدارسنا على مستوى الجودة والمسؤولية لتصنع أجيالاً تجمع بين العلم الواسع، والخلق الرفيع، والفكر المستنير، وعليه فالمهمة المطلوبة لتحقيق ذلك، هي اجتذاب أحسن العناصر التربوية، وأفضلها خلقاً وعلماً وذكاءً ومهارة للميدان التربوي.
إن مدارسنا لن تستطيع جذب هذه العناصر التربوية الموهوبة إلا إذا أعطيت الهيئة التعليمية حقوقها المادية والمعنوية المشروعة، وحظيت باحترام المجتمع وتعاونه وتقديره.
إن المربي الفاضل والمعلم الكفء هو الذي يحترم رسالته، وينمي ثقافته العامة والعلمية والتربوية، ويعشق مهنته ويضحي من أجلها، ليكون قدوة لمن يربيهم وللآخرين في بيئة تسودها المحبة والوسطية والاعتدال، بعقلية مميزة وطريقة تفكير مختلفة عن تلك التي نجدها في المهن الأخرى.
لابد من تحفيز المعلمين والمعلمات وتشجيعهم على التنافس التربوي الشريف الفعال، وهذا يتطلب التعرف على مستوى أدائهم العلمي والتربوي ونشاطهم وعلاقاتهم داخل المدرسة وخارجها، ثم مكافأة المتميزين منهم في جو تسوده الثقة والعدالة والموضوعية، والقدرة على التقويم الذي يحقق التطوير. ويحسن وضع (جائزة المعلم المتميز)، وقد تكون على مستوى المحافظة والمنطقة والدولة. كما أن العلاوة السنوية يجب أن يكون معيارها مستوى الأداء.
إن وفرة المعلمين المتميزين، والمعلمات المتميزات يعني توسيع دائرة مصادر الاختيار، ورفع معايير الترشيح لمديري المدارس، ووكلائها والمشرفين التربويين والمرشدين الطلابيين، بل وحتى قادة العمل التربوي.
إن وثيقة سياسة التعليم بالمملكة الصادرة عام 1389هـ قد أفردت الفصل الرابع من بابها الخامس لإعداد المعلمين، وقد تضمن بنوداً مهمة تتعلق بمناهج إعداد المعلمين، وبرامج التدريب أثناء الخدمة، وإتاحة المجال أمامهم للدراسات العليا، ووضع سلم وظيفي خاص يحفزهم لحمل هذه الرسالة النبيلة بكل أمانة وإخلاص ويضمن استمرارهم في سلك التربية والتعليم.
إن من الأمور المهمة تفعيل دور الشراكة بين المؤسسات الأكاديمية لإعداد المعلمين، ومراكز البحوث التربوية في الجامعات العشرين المنتشرة في مناطق المملكة ومحافظاتها وبين الوزارة، وإدارات التربية والتعليم والمدارس، وذلك من خلال اللجان المشتركة، والبرامج والمشروعات التربوية الهادفة، وكذلك المؤتمرات والندوات والاجتماعات التي تعقدها الوزارة، وفروعها، أو الكليات التربوية في الجامعات. ومن المهم تشكيل أسرة وطنية تختص بشؤون المعلمين تحت مسمى (الأسرة الوطنية لشؤون المعلمين)، لكي لا نجعل مؤسستنا الأكاديمية التربوية تغرد خارج السرب التربوي، خصوصاً وأن جميع هذه الأطراف تسعى جاهدة نحو تطوير العملية التربوية والتعليمية، والرفع من شأنها، وتفعيل دورها في هذا الوطن العزيز على الجميع.
إن أمام هذه الشراكة قضايا وموضوعات تربوية وتعليمية مشتركة وملحة، تحتاج إلى مشاركة أهل الرأي والاختصاص من الطرفين، قبل اتخاذ القرارات بشأنها. ويمكن الإشارة إلى بعض هذه القضايا والموضوعات بإيجاز:
معايير القبول في كليات الإعداد وإجراءاته.
الأعداد والتخصصات المطلوبة للميدان التربوي خلال العشر سنوات القادمة.
الخطط الدراسية المطلوبة أثناء مرحلة إعداد المعلمين والمعلمات.
شروط التعيين لوظيفة التدريس وإجراءاته.
التدريب على رأس العمل، ودور الكليات التربوية.
رتب المعلمين، معاييرها وإجراءات تصنيفها.
النصاب التدريسي للمعلم، وأعداد التلاميذ في الفصل، وواجبات المعلم وحقوقه في ضوء التجارب العالمية.
ومن الأمور المهمة التي يجب أن يدركها ويفهمها كل من يتقدم لمهنة التدريس، أو من هو في سلك التدريس.. أن التدريس ليس مهنة من لا مهنة له، وأن هذا التوجه قد انتهى زمنه إلى غير رجعة. وأن البقاء في هذه المهنة والترقية والعلاوة إلى درجات أعلى تحكمها ضوابط ومتطلبات، أهمها الكفاءة التربوية والخلقية والعلمية ومهارة الإبداع والتطوير والتجديد في العملية التربوية والتعليمية، بحيث يظهر في سلوكه العملي داخل المدرسة وخارجها احترامه لهذه الرسالة العظيمة، ومحبته لها والتضحية من أجلها.
وخلاصة القول إنه على الرغم من سهولة الحصول على المعلومة وتوفرها عبر وسائل التقنية الحديثة، إلا أن حاجتنا إلى المعلم الكفء، والمعلمة الفاضلة قد ازدادت، وتضاعفت في ظل هذه التقنيات المختلفة، وما تحمله من أفكار، ومبادئ، وتيارات بناءة وهدامة، وبرز دورهما المهم (المعلم والمعلمة) أكثر مما مضى بالتعاون مع الأسرة في تحصين الأجيال من كل رديء، ومرفوض، وغرس مفاهيم المحبة والاعتدال والوسطية والانتماء والاعتزاز بالوطن والطاعة، والولاء لولاة أمره، سعياً نحو تحقيق ما نتطلع إليه جميعاً من تقدم وازدهار، ونهضة كي يتبوأ هذا البلد العظيم مكانته اللائقة بين أمم الأرض.
سمو الوزير.. أصحاب المعالي النواب: هذه أفكار ورؤى ليست جديدة عليكم، ولا على الإخوة والأخوات المهتمين بالميدان التربوي، فهي معروضة للقبول، أو الرفض، وللتأييد أو المعارضة.. تقبل الدراسة والمناقشة. وفق الله الجميع وسدد الخطى، لما فيه الخير والصلاح لهذا الوطن الغالي وأهله الأوفياء.
- جامعة الملك فيصل بالأحساء
aalhulaibi@hotmail.com