لازلت أذكر ذلك الحماس والاهتمام الفائق الذي غمر الوالد - أطال الله في عمره - عندما كلفه الأمير فيصل بن فهد - رحمه الله - بالإعداد والتنظيم ضمن لجنة يقع على عاتقها إعادة إحياء (سوق عكاظ) كنشاط ثقافي يعكس إنسان هذا المكان وجذوره التي تغور عميقاً في أرض التاريخ.
ذلك الحماس والاهتمام مع الأسف لم يجد طريقه إلى أرض الواقع، وأجهض ذاك المشروع وقتها بعدما نهض في وجهه آراء كانت ترى في سوق عكاظ طقساً جاهلياً!
بالطبع تلك الآراء تعكس حالة قصور تعجز عن الوصول إلى رؤية شمولية ضمن إطار واسع وتاريخي، يقارب التاريخ من خلال مراحل تواترية بعضها يفضي إلى البعض الآخر, وتلاشت الأحلام تماماً كاختفاء تلك الرحلة الجغرافية الرائدة التي كان الشيخ حمد الجاسر - رحمه الله - ينوي القيام بها لتتبع مسيرة أصحاب الفيل عبر الجبال الحجازية، ذلك الاختفاء الذي حرم السجل الجغرافي المحلي مشروعاً نادراً ومميزاً في حال لو تمت الرحلة.
على كل حال تيار الزمن الهادر المتدفق لا تستطيع السدود أن تقاومه طويلاً، ويبقى في حالة كمون، ومخاتلة إلى أن يحين الوقت المناسب أو المسار الممهد الذي يتدفق فيه حاملاً جميع مكونات التغيير، وهذا بالتحديد ما نهض أمام ناظري على مساحة العرض في أحد أركان المعرض المرافق لفعاليات مؤتمر السياحة الذي أقيم في الرياض مؤخراً.
فبجهود رجال مخلصين يملكون الوعي والثقافة تترافق مع الحس الوطني وجدنا أن مشروع (سوق عكاظ) يتحول من ملفات مغيبة إلى مخطط مشروع هائل قيد التنفيذ من قبل وزارة السياحة.
وأمام المشروع وقفت منتشية بشلال من البهجة غمرني وأنا أشاهد جلال قيامة سوق عكاظ من رقاده الطويل، ورأيت قبة النابغة التي كان يضربها من جلد أحمر تبرق وسط السوق والخنساء تدخلها شامخة بأكليل الشعر حيث المرأة شقيقة الرجل مكتملة الأهلية صانعة فاعلة منخرطة في الفضاء العام منذ الجاهلية، والناس تتجمهر حول قس بن ساعدة الأيادي خطيب العرب المفوه، والقبائل حولهم تتعاكظ على المكان لتنخرط في نشاط إنساني يعكس شعر شعرائها وأفكارهم وخطبهم ومنجز يسطرون عراقته بين أوديته عبقر حيث ديوان العرب أمة لها بصمة براقة بين حضارات الشعوب.
وأنا أتتبع تفاصيل المشروع بحدب وحرص كمولود لم يخرج بعد من الحاضنة، تيقنت أن المنجز الثقافي هو أبرز ما يقدم ويعكس التفوق الحضاري للشعوب، أنه كما قلت وأقول دائماً الاحتفاء بالإنسان.. وليس البنيان.
والمشروع كما تعكسه المطبوعات يقوم على مساحة شاسعة في مدينة الطائف.. ويحوي عدداً كبيراً من القطاعات منها مسرح يسمى بقبة النابغة، ومركز عكاظ الثقافي وجادة الأدب العربي، مسرح ومتحف عكاظ التاريخي، جادة الفنون الإسلامية، جادة الثقافة العربية، مركز الأزياء العربية، كلية للفنون الجميلة، كلية للسياحة والفندقة، والأحياء الشامية والمصرية والأندلسية والعراقية، كل هذا وسط كم كبير من المرافق المساندة والخدمية.. إنه مشروع بحجم الحلم.
وأعتقد بعد قيام هذا المشروع ستتغير تفاصيل المشهد الثقافي لدينا، وسيصبح لدينا محجة للفنون والآداب على مستوى العالم العربي، تعكس لنا طاقات إنسان هذا المكان على الخلق والإبداع والخلود.