أحاديث تساق أحيانا كلون من ألوان الطرافة، لكن قد يكون فيها من الدروس والعبر الشيء الكثير. والحياة بوجهيها الضاحك أو الباكي تجد فيها متعة وتسلية، لا كما يتصوره كثير من الناس. والإنسان ابن البيئة وتقلباتها، يتكيف معها وبها على طباعها، وكل من عليها راض بما كتب وقدر له، مطمئن بالقضاء والقدر في الحياة، أو هكذا هو المرجو. والدارس لتاريخ المجتمعات البشرية يصل إلى هذه الحقيقة ويستفيد منها أكثر من غيره.
|
اثنان من الأدباء تغيرت بهم الأحوال من حال إلى أخرى، أصابا نعيماً ونجاحاً بعد بؤس ولأي ومشقة، مع ذلك لم تنسهما الأيام والسنوات واقعاً عاشاه وتآلفا معه، فتباريا في وصف (ثيابهما الرثة) التي سترا بها أحوالهما حيناً من الدهر. كيف نظر هذان إلى نفسيهما؟ وماذا كانا يتوقعان؟ وكيف كان الناس ينظرون إليهما؟ دونك ما يقوله أحدهم في ذلك الموقف:
|
إذا لبستك أغضي عنك ناظرتي
|
كي لا يذيبك لحظ الناظر النهمِ
|
أقضي نهاري على الأقدام منتصباً
|
مخافة العار أن أجلس وتنثلم
|
ويتجاوب معه الآخر شاكياً نادباً تلك الظروف، إذ لم يكن أحسن حالاً وحظاً من سلفه فيقول:
|
يمشي رفاقي وأمشي خلفهم خجلاً
|
من أن يروا ما على ثوبي من الدرنِ
|
ثوبٌ تمزق حتى رحت من خجلي
|
من الورى أحسد الموتى على الكفنِ
|
محور المقال هنا أن هاتين الشخصيتين لم تكونا من الشخصيات الاجتماعية البكاءة، أو النواحة، أو المستعطفة، أو المستجدية، بل ضربت مناكب الأرض، وذرعتها طولاً وعرضأ، ولاقت صنوفاً من الكبد والمشقة والعناء، وجمعت إلى جانب ذلك قناعة ورضا، وعفةً وزهدا. نضا عن عواتقهما الخمول والكسل والاتكال. وتحقق لهما شيء من النجاح الذي كانا يطمحان إليه ويأملانه.
|
قد يعيش الإنسان حياة النقيضين، الفقر والغنى، والصحة والمرض، والتفاوت بين البشر في من يدرك منهم قيمة المال والصحة، ويعرف كيف يوظفه في الحياة، لأنه في هذه الحال يبقى سلوكه مدرسة للأجيال يتعلمون منها.
|
* روي أن بعض الأعراب أصاب ثراء وملكا، فتناسى ما كان عليه من شظف العيش، فاستدرك عليه أحد الحاضرين قائلاً:
|
أتذكرُ إذ لحافك جلد شاة
|
وإذ نعليك من جلد البعير
|
فسبحان الذي أعطاك ملكاً
|
وعودك الجلوس على السرير
|
وقد يكون هو المستدرك على نفسه. إذن لنقلّب صفحات التراث ففيهما العبر والفوائد. والسعيد من اتعظ بغيرها - هـ
|
|