حدث أننا تربينا جميعاً -وبخاصة النساء- على ما يعرف شعبياً وما يمكن تسميته مجازياً بظاهرة (السمت)! فماذا يعني ذلك؟؟
السمت يعني عملياً أن تهدأ ولا تثير الغبار حولك مهما كان الموضوع، وتنستر لأن هذا هو المتوقع والمطلوب من أولاد وبنات الحمايل خاصة! ومن ثم، فاللغو الكثير والجدل أو الوقوف في وجه التيار هي سمات لا تمت لظاهرة (السمت) بصلة، وهو ما خلق
حالة العجز الدائمة في مواجهة التيار إضافة إلى الترهيب الاجتماعي والتفشيل العائلي من الدخول في القضايا والملاحقات القانونية تحت غطاء السمت والبحث عن الستر!. وهكذا ينطوي المتسمتون والباحثون عن الستر فيتنازلون عن حقوقهم أو حقوق بناتهم إذا ما تدحرجت إحداهن في زواج عاثر، أو ترى ظاهرة السمت الصارخة في حالة الأخوات الباحثات عن الستر في مواجهة أخ يأكل حقوقهن فيسكتن أو يتنازلن درءاً للفضيحة وبحثا عن الستر والهدوء وعدم إثارة الغبار في وجه ذكورية أخ متنفذ أو أب ظالم.
المؤتمر الإقليمي الرابع لدراسة ومقاومة العنف ضد المرأة والطفل الذي عقد بالرياض في مارس 2009 والذي حضره أكثر من ألف متخصص وباحث رجالا ونساء من شتى أنحاء العالم، كان فرصة لمراجعة الكثير من الظواهر المرتبطة بالمرأة في مجتمعنا والتي تؤخذ كمسلمات على أنها نموذج السلوك ورد الفعل الطبيعي المتوقع من المرأة في ظل عالم (السمت) والستر المطلوب منها؛ فهي (على سبيل المثال لا الحصر) قد تختار (أو يسمح لها من قبل وليها أيا كان أبا أو زوجا) أن تمارس رياضة المشي مثلا في إحدى الحدائق أو أحد المجمعات السكنية أو الحكومية، وهي قد تتعرض لمضايقات من متطفلين شباب لا يعرفون حدود السلوك في الأماكن العامة، أو هم وعبر كل وسائل التنشئة الاجتماعية قد أوجدوا رؤية مريضة للمرأة تلخصها في رؤية جنسية قاصرة أو هي بالمقابل قد تتعرض للملاحقة من بعض المتشددين وفي كل الحالات وطلبا للستر وعدم الفضيحة؛ فهي تفضل السكوت على كل أشكال الإيذاء التي تتعرض لها؛ إذ إنها ستكون المُلامة لأنها جلبت ذلك لنفسها بوجودها في المكان العام، أو لبسها عباءة الكتف أو كشف وجهها أو ما شابه من قضايا خلافية تجد المرأة فيها نفسها متهمة وملامة بدون وجه حق، وهي تفضل الصمت والانسحاب خوف الفضيحة (من ماذا)؟؟ حيث قد يتدخل الأب أو الزوج وتبدأ الحكايات ويبدأ (التفشيل الاجتماعي) وهو ما يلخص الظاهرة الاجتماعية المعروفة والتي نطلق عليها في نجد (بالسمت) !! وأظن بأن هناك مفردات موازية لهذا المعنى في مناطق المملكة شرقا وجنوبا وغربا اتمنى أن أعرفها.
هل هذه الظاهرة قاصرة على المرأة فقط؟؟ في الحق لا؛ فالرجل هو الآخر مطالب مثل المرأة تماما بمراقبة تطبيق سياسات السمت متى كان مضطرا لذلك، لكن الفرق يكمن في طبيعة الموقف الذي يتوقع ان تعشعش فيه هذه الظاهرة وتزهو.
يتوقع من الرجل أن لا يصرح بآلامه أو يظهر ضعفا من أي نوع كان، كما أنه يتقبل (لا منطقية) البعض ممن يتعامل معهم (إما لمحدودية تعليمهم أو لخلفياتهم الاجتماعية أو الطبقية) وهو يتوقع أن لا يرفع صوته ويحافظ على وقاره المتوقع كرجل. يتوقع منه أن يكون أهلا للشدائد فلا يشعر بالضعف أو القلق أو أن يظهر عدم المعرفة بموقف أو شيء ما؛ فهو الرجل الذي يحفظ وجه العائلة، وهو يحفظ جهله أو قلقه أو توتره داخل نفسه القلقة حتى يكرس ظاهرة السمت، كما يراها المجتمع في رجاله وهذه التوقعات يتم تكريسها في ذهن المرأة المرافقة لهذا الرجل بحيث تحاصر هذه المرأة رجلها بتوقعاتها الاجتماعية المريضة، كما يحاصرها هو برؤيته (السمتية) وتفسيراته لكل ما يمر بها، وهي تعجز عن الإفصاح له عما قد يخالجها أو يمر بها خوفا من التفسير المريض، وطلبا للستر والسمت وهو الآخر يكتفي بالادعاءات العنترية لمجابهة هزائم وقلق داخله فيقع الاثنان أسرى لرؤى مريضة تعشعش في هذه العلاقة التي يعجز كلاهما بسبب التباسها عن رؤية وتلمس البعد الإنساني لحقيقة وجودهما كبشر بعيدا عن التوقعات المريضة للمؤسسات الاجتماعية من حولهما.
قد يرى البعض أن ظاهرة وطبيعة الممارسات المرتبطة بالسمت هي قصراً على مجتمعات تقليدية ومغرقة في محافظتها كالمجتمع النجدي، لكن الحقيقة أنه وحتى هذا المجتمع النجدي لم يغرق في أطره التي تحاصر المرأة بهذا الشكل المتزمت والذي يعني في حقيقته حرمان المرأة من الكثير من حقوقها الشرعية والقبول والتواطؤ على هذا الحرمان اجتماعيا إلا في السنوات العشرين الأخيرة، ومع ظهور المد الديني المتطرف الذي جرم خروج المرأة أو تعاملها مع الفضاء العام؛ حيث حاصرها ضمن أطر مؤسسية ضيقة بدعوى الخوف عليها من الفساد في حين أن النساء في مجتمعاتنا التقليدية قبل المد الأخير تمتعن (وليس فقط في نجد بل في كافة مناطق المملكة) بالكثير من الحريات الاجتماعية والشخصية التي كانت تؤطر للعلاقات داخل الأسرة وبين الأقارب والجيران وتحدد علاقة المرأة بباقي أعضاء المجتمع، وخاصة من الرجال وسمحت هذه المساحة في الأعم الغالب بحفظ حقوق المرأة الشرعية في الإرث والحضانة والنفقة وغيرها من مسائل الأحوال الشخصية بشكل مكن المرأة من التعبير عن حقوقها واحتياجاتها دون أن يعتبر ذلك خروج على الصورة النمطية التي يجب أن تكون المرأة عليها كما هي محددة خلال العشرين سنة الأخيرة من حياتنا.
سؤالنا الرئيس هنا: ما الذي ضيق مساحة الحريات العامة والخاصة للنساء؟ ومن أدخلهن في نفق التخويف والترهيب الاجتماعي حتى اضطرت الكثيرات منهن للصمت على كثير من المظالم الاجتماعية التي لا تجد سندا شرعيا ويوازيها في القصور الكثير من إجراءات المتابعة والضبط التي تساهم في تكريس ظاهرة السمت حتى حدودها القصوى؟؟ ومتى سنتمكن مجتمعا وأفراداً من الخروج من هذا النفق ؟!!