في مهرجان عنيزة الثقافي المتأمل الخارجي (بعين محايدة) لابد أن يلمس بأن الأنشطة والفعاليات والمحاضرات، كانت تختزن واعياً عميقاً بطبيعة المرحلة ومتطلباتها، ولم يكن ذلك الوعي وحيداً بل ترافقه إرادة تدفعه تستحثه وتستمطره على أرض الواقع.
فالهوية التي رفعها المهرجان عنواناً له هي (نختلف لكن.. لانفترق)، عميقة الاتصال بالمشروع الوطني الكبير الساعي إلى الحوار والتعايش والتكامل، وجميع مفردات المرحلة الخضراء التي نعيشها، ونسعى إلى أن تكون منطلقاً لمشروعنا التنموي الكبير، المشروع المتوثب والقافز فوق الأفكار البدائية في التصنيف والتبويب والنفي والإقصاء، ليتساوى الجمع فيه تحت مظلة دولة القانون والمؤسسات المدنية.
تمتلك مدينة عنيزة إرثاً ثقافياً تراكمياً جعلها قادرة على تجاوز الفخ الذي يترصد بالمهرجانات والفعاليات التي تقام في كافة مدن المملكة، والتي تجعل منها مهرجانات استهلاكية تشكو من الصخب والضوضاء وغياب التخطيط الواعي القادر على استقطاب الجماهير من خلال فعاليات ومناشط ترقى بوعيها وذوقها بعيداً عن كل ما هو حسي غرائزي واستهلاكي.
فالقائمون على المهرجان من مثقفي مدينة عنيزة، كانوا يمتلكون الرؤية الشمولية التي تسعى إلى تأصيل فكر ذي طابع تنويري، فكر طيع مرن مشرع يديه للجميع مستجيب للعصر وظروفه، وهذا على كل حال سمة حضارية لطالما اتسمت به تلك المدينة عبر فصول التاريخ مروراً بيافطة أمين الريحاني التي علقها على مدخل عنيزة عندما مر بها وأطلق عليها (باريس نجد).
في نهاية الأسبوع الماضي تكاتفت عدد من الأمور لتجعل تجربة زيارتنا لعنيزة للمشاركة في فعاليات مهرجان (نتفق ولكن لا نفترق) الثقافي نادرة ومفعمة بالبهجة، أجملها كان لقاؤنا بمن يسمونها في القصيم (نوارة القصيم) سمو الأميرة نورة بنت محمد، والتي كعادتها كانت متواجدة متابعة حريصة داعمة وروحها تخترق المكان حولها بحدب وحنو.
لقاؤنا بالقائمات على مركز الأميرة نورة بنت عبدالرحمن الفيصل الاجتماعي، حيث المهنية والتنظيم والبشاشة والود والقدرة على العمل بروح الفريق وغالبيتهن من المتطوعات. أيضاً الاجتماع بباقة مورقة مزهرة من أكاديميات ومثقفات وأديبات الوطن، نجسر المسافات، ونرطب الأحاديث المنشية برحيق المطر وغنج الهوى فوق بحيرة العوشزية، حيث شاركنا المطر في هذا كله، وظلت غيمة مغدقة سخية ندية تطوقنا طوال أيامنا هناك.
غادرنا عنيزة ونحن نتمتم: أعجوبة عنيزة ليست فقط بأنها المدينة الوحيدة التي تنسدل على ضفاف بحيرة تقبع في قلب الصحراء النجدية، بل أيضاً كونها مدينة خضراء اختارت المستقبل وصهوة الغد وعبدت وشجرت وأنارت طريق لطالما ترصد بها مخلوقات الظلام وسعالي الفيافي.. بالوعي والإرادة الشاهقة.