اعتذار معالي الرئيس العام للهيئات الشيخ عبدالعزيز الحميّن من المواطن الذي جرت الإساءة إليه من قبل الهيئة دليل علم وفضل ورقي وتحضر، وهي خطوة تدل على أن هذا الجهاز في عهد هذا الشيخ الجليل يسير إلى الأفضل، ويتجه إلى محاصرة عيوبه، وتقويم أداء العاملين من أعضائه، بما يكفل في النتيجة أن يكون أداة بناء وحماية للناس، وصوناً لسمعتهم، بدلاً من أن ينحو نحو المماحكات والصراعات الإعلامية، وتعمد (التشهير) بالناس، و(التجسس) عليهم، وتتبع خطاياهم، وهتك أسرارهم. كما أن انتقال مدير الإعلام والنشر من موقعه الوظيفي الحالي في الرئاسة - كما تقول الأخبار - إجراء يحمل الكثير من البشائر التي تجعلنا نطمئن إلى أن هذه الشعيرة البالغة الحساسية يتولاها اليوم أناس لا يبحثون عن (سلطة)، ولا عن (الوصاية) على الناس، ولا على قراراتهم الشخصية، ويفرضون عليهم - وبالقوة - اجتهاداتهم الفردية، وإنما (تقويم السلوك) بأقل قدر من إيذاء الناس، ومضايقتهم، والتشهير بهم، ومراقبة تصرفاتهم مراقبة لا تمت لأخلاقيات الدين بصلة.
وفي الوقت الذي نشد فيه على يد الرئيس الجديد، فإن الأمل يحدونا أن يكون هذا الإجراء الموفق بمثابة القطر الذي يسبق انهمار الغيث، فهناك الكثير من الممارسات التي شوهت سمعة الهيئة، وعلاقتها بالناس، ننتظر من هذا الشيخ الفاضل أن يصححها، ويكبح جماح المتسببين فيها.
فلسفة الحسبة في الإسلام تقوم على أنها أداة من أدوات التقويم الأخلاقي في كل مناحي الحياة، ومن يقرأ تاريخ الحسبة في الإسلام فلن تخطئ عينه أن هناك (ثوابتاً) في العمل الحسبي، تقوم - أولاً - على أن (الأصل هو الستر والتشهير استثناء) وليس العكس. كما أن هناك كماً من الأقوال يمتلئ بها تراثنا الفقهي تؤكد أن شرط النهي عن المنكر بالنسبة للمحتسب ينحصر فقط في (المنكر الظاهر) والمجاهرة به، وعليه لا يحق للمحتسب (التجسس)، وهتك الأسرار، والمراقبة، وكسر الخصوصيات.
يروى عن معاوية - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم)، وروى الحاكم في (المستدرك) عن عبدالرحمن بن عوف أنه حرس ليلة مع عمر بن الخطاب، فبينا هم يمشون شب لهم سراج في بيت ، فانطلقوا يؤمونه، حتى إذا دنوا منه إذا باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط، فقال عمر - وأخذ بيد عبدالرحمن - أتدري بيت من هذا؟! قال: قلت: لا، قال: هو ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن شرب، فما ترى؟ قال عبدالرحمن: أرى قد أتينا ما نهانا الله عنه، نهانا الله فقال: (ولا تجسسوا) وقد تجسسنا، فانصرف عنهم عمر وتركهم، ويقول الغزالي في (إحياء علوم الدين) ما نصه: (فلا ينبغي للمحتسب أن يعترض رجلاً يسير مع امرأة دونما ريبة ويسأل من معك، ولا أن يسترق السمع على دار غيره ليسمع صوت الأوتار، ولا أن يستنشق ليدرك رائحة الخمر، ولا أن يمس ما في ثوبه ليعرف شكل المزمار، ولا أن يستخبر من جيرانه ليخبره بما يجري في داره).
وقد جعل الإمام أحمد - رحمه الله - الاستتار مانعاً من الإنكار حتى لو (علم) وجود ذلك المنكر، حفظاً لأسرار الناس التي يسترونها ولا يجاهرون بها. والسؤال الذي أريد من شيخنا الفاضل أن يضعه نصب عينيه: هل ممارسات الجهاز الذي يتولى رأس الهرم منه (متماهية) مع هذه الشروط الشرعية المؤصلة؟
إلى اللقاء.