هناك دائماً فرق يكبر ويصغر بين ما تسمعه من معظم الناس وبين ما تراه واقعاً في أفعالهم؛ فكل الناس على اختلاف ثقافاتهم وخلفياتهم يقولون دائماً أكثر مما يفعلون، وكلهم عندما تقصر أفعالهم عن الوصول للحدود الدنيا لما يقولون يجدون لأنفسهم ما يبررها ويدفع الملامة عنهم. وفي ظني أن كل أمر يفعله الناس يستطيعون تبريره مهما كان ومهما اختلف أو اتفق عليه؛ فنحن عامة لا نستحي من تبرير ما نفعله حتى ونحن نعلم ضعفه أو مجانبته للصواب، هذه إحدى
...خصائص النفس البشرية التي لا تستحي من أن تبرر وتدافع عن أفعالها وما أحدثته من حركة حتى وهي تسأل في مشهد الحق المبين عن الحق الذي لم تفعله عن قصد، فتشهد عليها كل الجوارح حتى تسكت هذا التمادي فيها لتبرير ما تعلم أنه خطأ أو ضلال أو ظلم لها ولغيرها، مع التأكيد على أن تبرير الأفعال أصلاً لا يوجه للناس أو لكسب قناعاتهم ورضاهم أو تأييدهم، بقدر ما يقصد به إسكات هذا الصوت المزعج الذين يئن في داخل كل نفس والمسمى بالضمير؛ ما يتيح مجالات أوسع لحركة هواها ونزواتها، ويضفي عليها هذا الشعور الزائف بالراحة وبالتحلل من قيود الواجب أو العرف أو أي قيد قد يحد من انطلاقتها؛ فالناس لا يبررون أفعالهم للناس وإن ظهر هذا في أقوالهم، لكنهم في الأساس يبررون لأنفسهم ما يتفق مع هواها وميلها لتنطلق دون إزعاج من ضمائرهم لتفعل ما تريد.
هذه كما أرى حقيقة إن اتفقنا عليها وسلمنا بها، فلا بد أيضاً أن نعترف بأن الظلم وحجم الغش والخداع والتضليل والخيانة وغيرها ستجد دائماً محفزات لها وحيزاً مناسباً للظهور وللتمدد كلما اتسعت حدود التبريرات في النفوس، ومع الوقت تستمرئ النفس ما تحدثه من خطأ حتى لا تعود هناك قيود أو ضوابط يمكن معها التحكم في سلوك النفس وميلها للأمر بالسوء. وسيكون التركيز لا على صدق أو صحة ما يحدث من سلوك ومدى توافقه مع ثوابت اتفق الناس عليها بقدر ما سيكون التركيز على قدرة التبرير؛ فيموت واعز التصحيح في النفوس.
النفوس السليمة هي نفوس لوّامة، تلوم نفسها، وتراجع خطواتها، وتضيّق دائماً ما استطاعت من حدود تبريراتها فتكون ضمائرها حاضرة دائماً لتعينها بعد توفيق الله على ما فيه صلاح أمرها.. والله المستعان.